كان أصدق ما في حملة المرشح الديمقراطي الخاسر في الانتخابات الأميركية جون كيري، هو تحذيره من أجندة منافسه جورج بوش الأيديولوجية التي تخنق البحث العلمي وتبطئ تطور العلوم بدلاً من أن تدفعها إلى الأمام. فإذا كان العلم التجريبي يتميز بموضوعيته وسهولة معرفة الصواب والخطأ في تجاربه، فالجدل حوله لا يتسع بدوره لمساحات كبيرة بين الصدق والكذب. فكل ما صدر عن بوش وكيري في حملتهما الانتخابية كان، وما زال، قابلاً للاختلاف على صحته وصدقيته. شيء واحد فقط في حملة كيري لم يتطرق إليه الشك، وهو اتهامه بوش بأن سياسته المحافظة التي تنطوي على مكون ديني أصولي تؤدي إلى خنق البحث العلمي الذي يعد العامل الرئيسي وراء صعود الولايات المتحدة إلى قمة النظام العالمي وتربعها عليها منفردة.
ولم يكن كيري وحده هو الذي حذر من ذلك، سبقه علماء أميركيون انتقدوا قرارات مثل خفض موازنة البحوث العلمية في وكالة الفضاء "ناسا"، والقيود التي فرضت على منح تأشيرات دخول للطلاب الذين يريدون الدراسة في الجامعات الأميركية مما أدى إلى خفض تدفق الأدمغة إليها، وتقييد الأبحاث الخاصة بخلايا المنشأ (الجذعية) على نحو أبطأ التطور الذي يمكن أن يؤدي إلى علاج أمراض مستعصية الآن مثل الزهايمر وباركنسون والسرطان والحبل الشوكي.
فللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، وفي تاريخ الغرب الحديث منذ عصر التنوير، تمارس فيها أيديولوجية دينية تأثيراً مباشراً في الحياة العامة من السياسة إلى العلم. كانت في الولايات المتحدة دائماً كنائس أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن لم يكن في البيت الأبيض في أي وقت رئيس يعتمد على فريق يتبنى أيديولوجية محافظة تستند على ركائز دينية وتعتبره كنائس بروتستانتية، وحتى بعض الكنائس الكاثوليكية، "الابن الفارس المقدس" الذي طالما بحثت عنه لمحاربة الفسق والانحلال والإجهاض والشذوذ.
كان في أميركا رؤساء متدينون من قبل، ولكن بوش هو أول رئيس يفتتح حملته الانتخابية بدعوة ألفين من القساوسة والقادة الدينيين إلى حفلة كبرى في أحد أفخم فنادق واشنطن، ويخطب فيهم كما لو أنه راعٍ وليس رئيساً أو مرشحاً لفترة ثانية.
فما فعله بوش، وسيواصله في فترة رئاسته الثانية، هو إضفاء طابع ديني جديد على الحياة العامة في الولايات المتحدة. لقد نشأت أميركا كدولة بعد أن نجح التنويريون الأوروبيون في فصل الفلسفة عن اللاهوت الديني وإعادة تأسيسها على قواعد علمية وربطها بالعلم، منذ الثورة الفيزيائية والرياضية في القرن الثامن عشر.
فمنذ ذلك الوقت، لم يعد ثمة قيد على العلم والبحث العلمي، وكان تقدم هذا البحث في الغرب هو الذي كرس ووسع الفجوة بين العالمين المتقدم والمتخلف- النامي. ثم كان تفاوت مستوى التطور العلمي هو الذي أدى تدريجياً إلى تفوق الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على الدول الأوروبية التي تبوأت قمة النظام العالمي منذ القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
غير أن الطفرة العلمية الكبرى في الولايات المتحدة اعتباراً من ثمانينيات القرن الماضي هي التي جعلت الفجوة بينها وبين الدول الكبرى الأخرى نوعية وليست كمية. فقد أصبح التقدم العلمي هو المصدر الأول للقوة الاقتصادية والعسكرية وعلى كل صعيد في هذا العصر، وليس الموارد الطبيعية والمالية. فالمعرفة العلمية هي أساس الثورة الصناعية الراهنة التي تمثل الاتصالات والمعلومات ركيزتها الرئيسية. ولذلك فإن استمرار تفوق الولايات المتحدة عالمياً مشروط بالحفاظ على تفوقها العلمي الذي يتيح لها أن تخترع وتبتكر أكثر من أية دولة أخرى. ومن هنا الخطر الذي يمكن أن يهدد انفراد الولايات المتحدة بالقمة العالمية من جراء سياسة بوش وغلبة المكونين الديني والأمني فيها.
فالمكون الديني يدفع إلى فرض قيود على البحث العلمي في مجالات بالغة الأهمية تحت شعار الحفاظ على القيم الأخلاقية. وكانت أبحاث الاستنساخ وخلايا المنشأ هي أول ضحايا هذه القيود حتى الآن. أما المكون الأمني فيؤدي إلى حرمان الولايات المتحدة من ميزة نسبية كبرى ساهمت بشكل جوهري في تفوقها على غيرها، وهي قدرة نظامها التعليمي على اكتشاف الموهوبين والنابغين مبكراً بين أعداد كبيرة من الطلاب الأجانب الذين كانوا يتدفقون على جامعاتها في كل عام، وأحاطتهم برعاية خاصة تجعلهم يفضلون البقاء والعمل في أميركا.
وقد ساهم هؤلاء، الذين ذهبوا إليها من شتى بقاع الأرض، في صنع تقدمها العلمي، غير أن القيود الأمنية المبالغ فيها التي فرضتها إدارة بوش عقب أحداث 11 سبتمبر أدت إلى خفض عدد الطلاب الأجانب في جامعاتها بشكل عام، وفي تخصصات معينة بشكل خاص. وحدث ذلك في الوقت الذي أخذ معدل إقبال الأميركيين على دراسة الرياضيات والفيزياء والعلوم الهندسية يتجه إلى التناقص. فعلى سبيل المثال كان نحو نصف طلاب الدكتوراه المسجلين في العلوم الهندسية في الجامعات الأميركية عام 2001 من الأجانب.
ولا يعني ذلك أن الأميركيين غافلون عن هذا الخطر الذي يهدد الأساس الذي ت