عقب الانتخابات الأميركية التي جرت مؤخرا, لم يعد ممكنا للقارة الأوروبية, التكيف مع بنى وهياكل الحكم التي تصنف على أنها من الدرجة الثانية, وما يرتبط بهذه البنى من أعضاء أوروبيين من الدرجة الثانية أيضا, طالما أن القارة تتطلع لأن يكون لها دور جديد في المسرح الدولي. وكانت الأولوية الطبيعية التي تحظى بها السياسات القومية الداخلية الخاصة بالدول الأعضاء في الاتحاد, قد جعلت من المفوضية الأوروبية, مكانا تستطيع فيه الحكومات القومية, دفن أو إبعاد الأضواء عن القادة الذين لم يعودوا يتمتعون بالقدرة الكافية للمنافسة, أو الذين استنفدوا دورهم, أو أولئك الذين لم تعد تنطبق عليهم شروط ومعايير القيادة كما ينبغي, علاوة على كون المفوضية مكانا لمجرد الاحتفاظ, بذلك النوع من القادة الذين يصعب التخلص منهم. ومع أنه كان تصعب حتى وقت قريب, معرفة ما يحدث لمثل هؤلاء القادة في مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل, إلا أن هذا الواقع قد تغير الآن. فلم تعد المجموعات المشكلة لأحزاب العمل القومي الأِوروبي داخل البرلمان القاري, على ذات طبيعتها وتوجهها الأوروبيين, علاوة على كونها لم تعد متماسكة آيديولوجيا, مثلما كان عليه حالها سابقا. وعليه فمن الملاحظ أنه لا الصحافة الأوروبية, ولا الرأي العام الأوروبي, يلقيان بالا يذكر لهذه الجماعات. وبذلك تكون الساحة قد خلت للعناصر الاستثنائية والذكية, لأن تشق طريقها وتحتل موقعها, في كل من المفوضية والبرلمان الأوروبيين. غير أن شق الطريق نحو البرلمان الأوروبي, ظل دائما الملاذ الأخير, بالنسبة للعناصر السياسية الطموحة. ذلك أن تعويل هذه العناصر, عادة ما يكون على مستوى السياسة القومية, أكثر من كونه يتم من داخل المفوضية الأوروبية.
لهذا فإن رفض البرلمان الأسبوع الماضي, للمفوضية التي اقترحها رئيسها البرتغالي الجديد, خوسيه مانويل باروسو, يرجح له أن يكون حدثا حاسما في مسيرة تطور الاتحاد الأوروبي, ونمو بناه وهياكله وسلطاته الحاكمة. وأكد البرلمان ضمن ذلك الرفض, أنه لا يمكن تجاهله أو التعالي عليه. ولم يعد ممكنا للدول الأعضاء في الاتحاد, أن تقبل في عضوية المفوضية, عناصر ثانوية لا وزن لها. وأضحى رئيس المفوضية بحاجة للمزيد من السلطة والصلاحيات, التي تخول له اختيار فريقه الخاص, وأن تتوفر له الخيارات التي يستطيع أن ينتقي منها ما يشاء. وأكد البرلمان أنه ليس على استعداد للتسليم بالأفعال الناجزة التي تفرض عليه, كما لو كانت أمرا واقعا لا مرد له. ومما اعترض عليه البرلمان, بعض الأعضاء المرشحين لعضوية المفوضية, ممن أظهرت المقابلات التي أجريت معهم, جهلا واضحا وعدم أهلية بمواقع المسؤولية التي سوف توكل إليهم. علاوة على أن لبعضهم, تضاربا واضحا في المصالح والأهداف. وكان من المثير للدهشة والاستغراب, أن يرشح رئيس المفوضية, روكو باتيجليون, لتولي منصب المفوض القضائي المعني بحقوق الإنسان, علما بأنه كاثوليكي تقليدي, يحمل كثيرا من القيم التي تتعارض في بعض الجوانب مع المعايير العامة لحقوق الإنسان, مثلما هو حال العاصفة التي أثارها في بروكسل, حول معتقداته الخاصة المعادية لعلاقات المعاشرة بين المثليين. وقد عدت هذه الآراء الدينية المتشددة, معارضة في جوهرها للمجرى الرئيسي الذي تعبر عنه العلمانية الحديثة.
كما يعتقد هذا المرشح أيضا, أن الرجال والنساء, إنما خلقوا وجبلوا على الالتزام بتكوين الأسر وإنجاب الأطفال وتنشئتهم. ولما كان هذا الاعتقاد يجد قبولا كبيرا له اليوم –حتى بين أكثر الجماعات النسوية راديكالية وتقدما في الغرب- علاوة على كونه الاعتقاد الراسخ عبر آلاف السنين من مسيرة المجتمع البشري, فإن من الطبيعي أن يعتقد المرء, ألا تكون هذه القناعة التي يحملها هذا المرشح الإيطالي لعضوية المفوضية الأوروبية, روكو باتيجليون, سببا في حرمانه من القبول للعمل بين طاقم أعضاء المفوضية. صحيح أن باتيجليون يعرب عن معتقداته الدينية هذه, بلغة وطريقة, عرفها المسيحيون الأوروبيون الكاثوليك, منذ نعومة أظفارهم وطفولتهم الباكرة. غير أنهم ومع ذلك, يلمسون فيها ما يفتقر للباقة والذكاء, حين يعرب عنها ذلك المسيحي, في سياق العمل السياسي, الذي لا علاقة كبيرة تذكر له بالدين. بل وهناك من المسيحيين الكاثوليك أنفسهم, من يسائل تلك الآراء والقناعات من الناحية اللاهوتية البحتة.
بهذه المناسبة, يذكر أن المرشح الديمقراطي جون كيري, كان قد عجز خلال حملته الانتخابية, عن اقتناص تلك الفرصة التي أتيحت له, والتعبير عن موقفه الديني الخاص, على نحو يعبر عن أن على الرئيس الأميركي التزاما سياسيا وأخلاقيا, يحول دون محاولته فرض وجهة نظر أقلية اجتماعية ما, مثيرة للجدل والخلاف, على بقية الشرائح الأوسع من القاعدة الاجتماعية. وفي الانتخابات الأميركية التي جرت مؤخرا, كان الرئيس الحالي جورج بوش, ومنسق حملته الانتخابية كارل روف, هما من قاد محاولة استخدام السلطة والنفوذ الحكوميين, في فرض المعتقدات الطائفية والمذهبية الدينية عل