جورج بوش لم يكسب الانتخابات في الثاني من نوفمبر الحالي بسبب موافقة الأميركيين على حربه في العراق، ولا على طريقة إدارته للاقتصاد. الشيء المؤكد أنه قد حقق فوزا حاسما في دوائر الناخبين المهمومين بالقضايا الاجتماعية مثل زواج المثليين، وانتشار الإباحية الجنسية، وفي دوائر هؤلاء الذين يعتقدون أنه لا يزال الرجل الأكثر قدرة على حماية الوطن من الإرهاب.
بوش يجادل الآن بأنه قد أصبح لديه تفويض من قبل الشعب، كي يمارس الحكم بحسم، ويركز على تلك الموضوعات التي يعتقد أنها المفتاح لمستقبل أميركا. فقد قال بوش في أول مؤتمر صحفي يعقده بعد فوزه في الانتخابات، أنه قد تمكن من تجميع( رأسمال) من الانتخابات، وأنه ينوي الآن إنفاقه.
وفي الحقيقة أنه توجد عدة قيود ومحددات تحول دون أن يكون لدى بوش القدرة على تجاهل الخمسة وخمسين مليون أميركي الذين صوتوا لصالح كيري، والذين يشعرون بقدر كبير من التعاسة والغضب في الوقت الحالي. المحدد الأول هو العراق. فبصرف النظر عما سيحدث في غضون الشهور القليلة القادمة، فإن بوش مضطر إلى الذهاب إلى الكونجرس مع بداية العام الجديد، للمطالبة بتوفير ميزانية إضافية للبنتاجون يمكن أن تصل إلى 70 بليون دولار.
ويأتي هذا في الوقت الذي تؤدي فيه العجوزات القياسية سواء في الحساب الجاري أوفي الميزان التجاري مع العالم الخارجي، إلى ضغوط شديدة على الدولار الأميركي مما سوف يؤدي حتما إلى زيادات إضافية في معدلات الفائدة.
ويأمل بوش أن يؤدي تعافي الاقتصاد الأميركي إلى نمو قوي، يصل بدوره إلى تحقيق عوائد ضريبية، يمكن أن تساعد على دفع النفقات الإضافية الهائلة اللازمة للدفاع والأمن الداخلي والصحة. ولكي تبقى الولايات المتحدة في نفس الوقت في حالة قدرة على الوفاء بديونها، فإن وزارة الخزانة الأميركية يجب أن تعمل على بيع سندات للأجانب حتى تستطيع سد العجوزات القائمة.
ويشار في هذا السياق إلى أن الديون الأميركية لباقي دول العالم تتزايد بشكل مستمر وعلى وجه الخصوص تلك المستحقة للدول الكبرى في آسيا مثل الصين واليابان. علاوة على ذلك نجد أن الاعتماد الأسيوي على نفط الشرق الأوسط يزداد عاما بعد عام، وهو ما يعني أن الصين واليابان وكوريا والهند جميعا، سوف تسعى إلى عقد صفقات فردية مع الدول النفطية في الشرق الأوسط كي تضمن الحصول على احتياجاتها من النفط في حالات الطوارئ. وهذا هو السبب الذي جعل آسيا الآن أكثر تركيزا واهتماما بالشرق الأوسط.
على المستوى الاستراتيجي العالمي، نجد أنه على رغم أن الولايات المتحدة لازالت هي القوة العظمى العسكرية الوحيدة في العالم، إلا أنها تتعرض لتحديات متزايدة على الصعيد الاقتصادي، كما أن سلطتها في البت في الأمور حسبما تشاء قد أصبحت- بسبب أعباء الديون التي تنوء تحت كاهلها- أقل كثيرا عما كان عليه الوضع في التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان الاقتصاد منتعشا.
وهذا المزيج من المصاعب المالية، والتمدد الإمبريالي المفرط يفرض على الرئيس بوش العمل بدون إبطاء. ولو كان بوش رجلا حصيفا، فسوف يدرك أن مضي الولايات المتحدة قدما في السير بمفردها، ينطوي على أخطار عديدة وأن هناك محددات ضخمة على قدرة أميركا على التحكم في مصير المناطق الرئيسية في العالم... ومنها الشرق الأوسط.
لن ندرك ما إذا كان بوش حصيفا أم لا إلا عندما نعرف الأشخاص الذين سيقوم بتعيينهم في المناصب الرئيسية في إدارته خلال الفترة القادمة. فإذا ما قام باستبقاء المتشددين، فإن السياسة الخارجية سوف تظل حتما سياسة قائمة على المواجهة. أما إذا ما أراد الرجل أن ينفق رأسماله السياسي في تقديم أجندة راديكالية في الوطن، وفي تعيين أشخاص أكثر واقعية وبراجماتية في وزارة الخارجية، فإن ذلك سيكون هو الخيار الصحيح... أما إذا اتبع أجندة راديكالية في الوطن وفي الخارج معا فإن عزلة أميركا سوف تزداد، وسوف يصبح هذا العالم وقتها مختلفا وأكثر خطورة عما هو عليه الآن.