ربما كانت أسوأ تركة يخلفها صدام حسين لشعبه, هي الحرب الأهلية التي سوف تعقب مغادرة قوات التحالف الدولي, بعد أن تظن أنها حيدت العراق, ونزعت عنه فتيل النزاعات والمواجهات الداخلية. بيد أن هذه الحرب, ستندلع-فيما لو حدث ذلك- نتيجة لانفجار مشاعر الغضب والغبن لدى المجموعات غير العربية التي استقرت في شمالي العراق, خلال فترة الحكم العثماني للعراق. فالمجموعات غير العربية تمثل الطرف الأول من الحرب الأهلية المحتملة, بينما تمثل المجموعات العربية التي جلبها صدام حسين إلى ذلك الجزء من العراق, كجزء من سياسة التعريب التي كان ينتهجها. يذكر أن مجيء صدام حسين إلى السلطة, كان مسبوقا بوجود الإمبراطورية العثمانية وعصبة الأمم. وكانت الإمبراطورية العثمانية في أوج مجدها وازدهارها, من الجزائر وبواباب النمسا غربا, وحتحى إيران شرقا, ثم المملكة العربية السعودية جنوبا. وخلال تلك الفترة, كان العثمانيون يحتلون الجزء الأعظم مما يعرف بالعراق اليوم, خلال القرن السادس عشر الميلادي. بنى العثمانيون لهم قاعدة بحرية رئيسية في مدينة البصرة, بهدف حماية حركة الملاحة في مياه الخليج, والسيطرة عليها وقتئذ. أما التوسع الإمبراطوري للدولة العثمانية في داخل الحدود الأوروبية, فقد تم دحره وتقليصه تدريجيا. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914, كانت حدود الإمبراطورية العثمانية, قد تقلصت كثيرا, حتى اقتصرت على منطقة الشرق الأوسط وحدها, ورقعة ضئيلة جدا من شمالي إفريقيا.
وكان ممكنا للعثمانيين أن يتخذوا موقفا محايدا إزاء الحرب, غير أنهم تحالفوا بدلا من ذلك مع الألمان. وكان ذلك القرار, قد تأثر فيما يبدو, بالانتصارات الأولى التي أحرزتها ألمانيا, إلى جانب تأثره بالعداءات والمشاحنات المستمرة بين الأتراك والروس. وقد كانت هذه العداءات نفسها, سببا وراء انضمام تركيا لحلف الناتو فيما بعد. كما تأثر القرار أيضا بالحس الانتهازي لوزير الحرب العثماني أنور باشا. ففي أكتوبر من عام 1914, أي بعد مضي شهرين فحسب على اندلاع الحرب العالمية الأولى, أقدم العثمانيون على قصف الموانئ الروسية الواقعة على البحر الأسود, بالمدفعية الثقيلة. وما أن حدث ذلك, حتى أعلن الحلف الثلاثي المكون من فرنسا وروسيا وبريطانيا, الحرب على الإمبراطورية العثمانية.
وكما نعلم, فقد أسفرت الحرب العالمية الأولى عن نشأة عصبة الأمم, ونظام الانتداب الذي ارتبط بها, وهو نظام يشبه في كثير من الوجوه, نظام الوصاية الذي ارتبط بنشأة الأمم المتحدة, في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ضمن ذلك التقسيم الجديد لمواقع النفوذ الإمبريالي, كان الانتداب البريطاني قد منح مناطق نفوذ, امتدت شمالا حتى بغداد. بينما امتد نفوذ الانتداب الفرنسي من سوريا فشرقا حتى مدينة الموصل. ثم جرى لاحقا دمج كل من محافظات الموصل وبغداد والبصرة, في كيان سياسي واحد, على رغم تنوع التعدد الثقافي والعرقي والديني الذي اتسم به سكان المحافظات الثلاث, وفصل له البريطانيون حدودا سياسية شكلية, ووضعوه على الخريطة الجغرافية, تحت مسمى جديد, هو العراق.
وفي عام 1921, كان وزير المستعمرات البريطانية وينستون تشرشل, قد رعى مؤتمرا في القاهرة, تم فيه إنشاء حكومة ملكية في العراق. تبع ذلك سن دستور, نص على إقامة نظام حكوم نيابي, وكيان تشريعي, يتألف من هيئتين. وبالفعل عقد البرلمان الذي جرى تشكليه, أول اجتماع له في العام 1925. وفي عام 1932, أنهت بريطانيا انتدابها في العراق. وخلال الفترة الممتدة من عام 1925 وحتى لحظة الإطاحة بالحكومة الملكية في عام 1958, عقدت 10 انتخابات عامة في العراق, وجرى تشكيل 50 مجلسا وزاريا- أي بمعدل مجلس وزاري جديد في كل ثمانية أشهر- وليس هذا بالطبع مؤشرا جيدا بأية حال على سجل استقرار سياسي هناك, كما أنه لا يوفر أدنى سبب للظن أن مصير أي ديمقراطية جديدة في العراق, سيكون أفضل من ذلك السجل, إن لم يكن أسوأ منه في حقيقة الأمر. وللسبب عينه, فإن الديمقراطية التي ستأتي في العراق, لن تشبه بأية حال من الأحوال تجربة التوافق السياسي التي سادت في كل من حكومتي بوليفيا وإيطاليا, اللتان تتسمان بالتعدد الثقافي والعرقي والديني بين سكانهما. وعلى رغم ذلك التعدد, إلا أن كلتا الحكومتين عرفتا الاستقرار والسلام الاجتماعي, ولم يبد أن أيا منهما كانت مهددا أمنيا لجاراتها مطلقا.
وعليه, فربما لن تواتي فرصة واقعية على المدى القريب المنظور لإقامة ديمقراطية راسخة ومستقرة في العراق الجديد. ذلك أن الجهود التي بذلها صدام حسين في قمع الأكراد, معلومة جدا. غير أن الذي ظل خافيا وغير معلوم على نطاق واسع, هو أن تلك الجهود, لم تكن في واقع الأمر, سوى جزء يسير من سياسة تعريب شاملة, انتهجها صدام حسين تجاه الجزء الشمالي من بلاده. فقبل نحو ألف عام تقريبا, كانت قد وفدت موجات هجرات سكانية متتالية من مناطق آسيا الوسطى –شملت المغول والأتراك والتركمان والأكراد والشركس- بين هذه المجموعات العرقية المختلفة, لا تزال