على مدى أربعين عاما, ظل ياسر عرفات يحمل اسم "السيد فلسطين", ويجسد في شخصه, أحلام وتطلعات شعب بكامله, ونضاله من أجل نيل حق تقرير المصير, الذي كان قد بدأ جديا, عقب الهزيمة التي تلقتها الأنظمة العربية على يد إسرائيل في حرب عام 1967. لحظتها شعر الفلسطينيون -بقيادة زعيمهم ياسر عرفات- أن بإمكانهم الإمساك بقضيتهم ومصيرهم كشعب. غير أن سجل ذلك النضال, قد ظل محزنا ومأساويا على الدوام. فاليوم يقبع الفلسطينيون تحت مداس الأحذية العسكرية الإسرائيلية, وتمت إبادة الكثيرين منهم, أو إلحاق عاهات مستديمة بهم أو اعتقالهم. وعليه فقد ألحق الدمار بمجتمعهم, وهدمت بيوتهم, وسويت مزارعهم وكرماتهم بالتراب, بينما واصل مئات, بل آلاف الإسرائيليين المدججين بالسلاح احتلال أراضيهم ومصادرتها. ومما لا شك فيه أن الزعيم عرفات, يقع على عاتقه الوزر الأكبر من المسؤولية, إزاء هذه المأساة.
غير أن الواقع الفلسطيني ليس قاتما في مجمله, ولا يخلو من بصيص أمل. فقد استطاعت منظمة "فتح", باعتبارها جزءا من حركة المقاومة الفلسطينية, التي أسهم عرفات في إنشائها خلال عقد الستينيات, إثارة الحمية الوطنية العامة في نفوس الفلسطينيين. ولا تزال هذه المنظمة, قادرة على تمثيل التيار الرئيسي للحركة الفلسطينية. أما منظمة التحرير الفلسطينية, التي أسسها عرفات منذ عام 1969, فقد كانت دائما, المظلة التي تستظل بها مختلف تيارات وفصائل حركة المقاومة. يذكر أن بعض ممثلي التيار الإسرائيلي المتشدد, سيما الزعيمة الإسرائيلية السابقة, "جولدا مائير", كانت قد نفت من الأساس, وجود شعب اسمه "الفلسطينيون". غير أن حركة المقاومة التي أنشأها عرفات, أرغمتهم على ابتلاع كلماتهم ولعقها. نتيجة لتلك المقاومة, فقد اعترف العالم بأسره اليوم, بعدالة المطلب والحق الفلسطيني, في أن يكون لهم وطن مستقل, مثل غيرهم من الأمم والشعوب. صحيح أن "الدولة الفلسطينية" لم تظهر بعد على الخريطة العالمية, غير أنها حفرت في ضمائر البشر وقلوبهم. وعن زعيم حزب العمل, ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل, "اسحق رابين", كثيرا ما تحدث عرفات, واصفا إياه بكونه شريكا له في عملية السلام. فمن خلال تبادلهما التحية في الحدائق الجنوبية بالبيت الأبيض, في الثالث عشر من سبتمبر من عام 1993, كان الشريكان, قد وقعا معا, على اتفاقية "أوسلو", التي اعترفت رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية, بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني, ومن ثم أقرت التفاوض معها من أجل السلام. بيد أن اتفاقية أوسلو لم تنبس بحرف واحد, فيما يتصل بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين, أو مستقبل المستوطنات الإسرائيلية, ولا وضع مدينة القدس, أو حدود الدولة الفلسطينية في المستقبل. ولم تتضمن الاتفاقية أية وعود تتصل بمستقبل الدولة الفلسطينية نفسها, وما إذا كانت هذه الدولة ستنشأ أصلا, أو يكون لها وجود في يوم ما. وفي مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية, وقع عرفات على نص اتفاقية, اعتبرها صفقة كبيرة بالنسبة للفلسطينيين. في تعليق شهير له, كان الكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد, قد شجب اتفاقية "أوسلو", وكتب واصفا منظمة التحرير الفلسطينية, بأنها" حولت نفسها من حركة للتحرر الوطني, إلى حكومة ضاحية صغيرة, ظلت تمسك بزمام أمورها الحفنة نفسها من القادة المؤبدين".
لكن وعلى أية حال, فإن اتفاقية "أوسلو" لم تسفر عن شيء البتة, إذ سرعان قضى عليها تمنع الإسرائيليين عن تقديم أية تنازلات للطرف الفلسطيني. واليوم فإن مراوحة النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني مكانه, ينظر إليها على نطاق دولي واسع, على أنها عامل أساسي في الأزمة الدولية. وقد تمخض عن الدعم الأميركي غير المشروط الذي تقدمه لإسرائيل, في قمعها الإجرامي الوحشي للفلسطينيين, موجة عارمة من الغضب والكراهية لأميركا على امتداد العالمين العربي والإسلامي. وحتى إن كانت رسالة الكراهية هذه, غير مرغوب فيها في واشنطن, فهي وقبل ذلك, لم تجد الأذن التي تصغي إليها أصلا. لكن وترديدا لصدى حليفه البريطاني توني بلير, أكد بوش التزامه بالإعلان عن قيام دولة فلسطينية مستقلة, جنبا إلى جنب إسرائيل. وعلى الرغم من أن مثل هذه الكلمات والتصريحات تجد ترحيبا, إلا أنها تظل مجرد كلمات لا أكثر, بينما يتحول حلم الدولة الفلسطينية المستقلة, إلى سراب ليس إلا. وعلى أية حال, فتلك هي الإنجازات الوحيدة التي يمكن أن تحسب لصالح عرفات.
ولما كان الحزن قد خيم الآن على الفلسطينيين بسبب وفاة زعيمهم, فإنه سيبدو من غير اللائق, الحديث عن أخطاء عرفات ونقائص قيادته. بيد أن التاريخ سيضع أداءه على كفة ميزان التقييم لا محالة, ويحاسبه على ما فعل. عموما, فإن أرادت منظمة التحرير الفلسطينية لنفسها الفوز والوصول إلى أهدافها, فإنها في أمس ما تكون الحاجة, إلى توجيه جهودها كلها نحو أهدافها العليا, فضلا عن حاجتها إلى انضباط حديدي صارم في صفوفها. فقد كانت فيما نعلم, مستنقعا للأجنحة والفصائل المتصارعة المتنافسة فيما بينها, لكل منها أجدن