يصعب على القلم أن يخط في أروع قائد عرفته الأمة العربية والإسلامية منذ قرون. إننا أمام جبل أشم لم تزلزله حوادث الأمة العربية بمآسيها لحظة ولم تضعف عزيمته أبدا، فكلما اشتدت الأزمة على أمة العرب زاد صلابة وقوة وشدة لمواصلة الطريق الذي خطه قبل أكثر من ثلاثة عقود من عمر الاتحاد الذي ظل يرعاه بكل ما أوتي من سناء الحكمة وبهائها.
هناك قادة في الأمم يحيون بين شعوبهم ولكنهم لا يعدون في واقعهم أحياء لأنهم أقرب في فعالهم إلى سكان القبور قبل أن يأتي عليهم الثرى. زايد يعد استثناء التاريخ الذي صنعه بمجهوده المتواصل طوال عمره المديد وها هو اليوم ينسل من بين أيدينا وكأننا عدنا أيتاما نبحث عن والدينا ونحن بين أيديهم. ترى كيف يشعر الإنسان بفقد والديه؟. إن زايد لنا ذو دلالات أخرى قد لا نجدها بين آبائنا الحقيقيين، ومع ذلك فإننا في لحظات بأمس الحاجة إلى وجوده بيننا أطول فترة ممكنة وإن كنا لا نعترض على قضاء الله وقدره.
ولا ننسى من سيرته يوم أن وقف أحد الصحفيين الأجانب بين يديه في لقاء مفتوح وعلى الهواء مباشرة، والصحفي متردد وفي حالة تلعثم في السؤال الذي يريد أن يوجهه إليه ولكن الكلمات لم تكن لتسعفه، فأدرك زايد بفطرته الصافية وسجيته الراقية وقلبه الصادق ما يريد الصحفي إيصاله وقد قيده ارتباك الهيبة بين يديه، فقال رحمه الله في ذلك الموقف: أعرف جيدا ماذا تريد قوله، تريد أن تعرف ماذا يكون حال الدولة بعد وفاتي، فالموت مكتوب علي وعلى الآخرين وهو حق لا مهرب منه لأنه قدر المولى الذي نرضى به جميعا بلا ذرة من الشك، ولكنني أطمئنك بأن من بعدي الأمور معدة ومقدرة وفق ما يعين على مواصلة مسيرة الاتحاد إلى الأفضل، لأنني تركت من خلفي رجالا لن يفرطوا في هذه الأمانة التي أوقفت عليها من عمري سنين عدة أخذت مني كلي ولم تترك لي بعضي.
هذا الحوار كان جزءا من حديث مطول مع كافة وسائل الإعلام التي كانت متحفزة لنقل هذه الدرر إلى العالم أجمع حتى يتعرفوا على الحقائق التي لا لبس فيها والمنطلقة من قلبه إلى قلوب الآخرين بلا حجاب ساتر ولا رقابة مانعة وليفهم كل ما يود أي إنسان سماعه من قائد دون خوف أو حرج.
إننا فقدنا رجلا شهد له العالم كله من أقصاه إلى أقصاه بالريادة والقيادة والحكمة، فهو القائد الذي يوصف بالندرة إن استطاعت أرحام النساء ولادة من مثله، ولكن هيهات، هيهات.
إن زايد بهذا المقياس يعد ممن صنعوا التاريخ ولم يصنعه التاريخ، فكان من قبل، المعجز الذي يمكن لكل الناس أن يتلمس بصمات إعجازه على كل شجرة أو فسيلة أمر بغرسها في قلوب أفراد شعب هذا الوطن الغالي.
زايد في مماتك لم تمت حقيقة الروح التي تسري في دمائنا من قوة وصاياك التي حفظناها عن ظهر قلب. عزاؤنا أنك باق كما أنك حي تتحرك بيننا، فهذا الشعور لن يفارقنا. إن شعب الإمارات مطالب اليوم ألا يفرط لحظة في كل كلمة قلتها في مناسبات شتى لأن فيها دواء الأمة جمعاء. وسنظل نعمق جذورها في قلوب الأجيال الآتية تعليما وتربية وصقلا حتى لا تسقط الشمعة التي أوقدتها من بين أيديها ولكي لا تلتفت الأجيال إلى الوراء، بل كما علمتنا، تمضي إلى المستقبل وهي مطمئنة بأنها من صنع.