يمثل كتاب "الإسلام والغرب"، لمؤلفه الدكتور ناصر الملا جاسم، والذي نعرض لأهم محتوياته فيما يلي، دراسة نقدية للاستشراق وجوانبه المنهجية والموضوعية المختلفة، خاصة لجهة سعيه "الواضح" إلى إعادة تمثيل القيم والأفكار والمفاهيم المرتبطة بالتاريخ الإسلامي ونصوصه الثابتة؛ فما هي البداية الحقيقية للاستشراق زمنيا ومكانيا؟ وكيف تجلت دوافعه في التاريخ الأوروبي؟
يشير مصطلح الاستشراق، وهو التراث الغربي الذي اتخذ الشرق موضوعا للدراسة والتقييم، إلى مظهر مهم من مظاهر الصلة المتوترة بين الغرب والشرق، بل يعد، في واقع الأمر، نتاجا نظريا لتلك العلاقة!
أما بداية العهد الأول للاستشراق، كما يتضح من الاستقصاء الذي قام به المؤلف، فتعود إلى علاقة الجدل الديني الذي أثاره بروز الإسلام على خريطة العالم القديم كقوة دينية وسياسية عظيمة؛ وكانت كتابات يوحنا الدمشقي (680-750) من بين المحاولات المبكرة لتقديم رؤية خارجية عن الإسلام والمسلمين، ثم برز في أوروبا بطرس المبجل الذي أعد أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللاتينية في عام 1143، وقدم لها ببحث مفصل عن السيرة النبوية. ثم برزت خلال الحروب الصليبية روح عداء مستحكم استهدفت إثبات "زيف" و"بطلان" النص القرآني! بل اشتملت بعض الأعمال التي ظهرت حينئذ على دعوة "إبادة الجنس الذي يعتنقه، باعتبارهم أحفاد الشياطين"! لكن انتهاء الحروب الصليبية التي أكدت استحالة هدف كهذا، أفرزت تصورا مخالفا تجاه العرب والمسلمين؛ فقامت العديد من المجمعات الكنسية بتأسيس كراسي لدراسة الإسلام واللغة العربية في جامعات أوروبا البارزة، وإن ظل ينظر إلى الإسلام في الوجدان الأوروبي على أنه "دين بشري" وإلى القرآن بوصفه كتابا "أنشأه محمد"!
ورغم أن الاستشراق بدأ بداية دينية، فقد شهد أزهى عصوره في إطار الاستعمار الذي مد النفوذ الأوروبي إلى ما وراء البحار؛ فقد انضوى المستشرقون تحت راية الجهد التبشيري مستغلين تحالفهم مع القوة الاستعمارية، ومن ثم نشأت الحاجة إلى استشراق سياسي أخذ صيغته الأكاديمية لاحقا. ولعب الاستشراق الأكاديمي دورا خطيرا في تطوير الدراسات العربية في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، قبل أن يهيمن على البحث الأكاديمي في الدراسات العربية بحكم التطور الذي حققته أدوات بحثه ومنهجياته النابعة من تطور الحضارة الأوروبية ذاتها.
ويتركز اهتمام الكتاب بشكل أساسي، على الاستشراق الإنجليزي بتلويناته السياسية والأكاديمية والدينية؛ فبفضل المدارس والكليات التي أقامتها شركة الهند الشرقية البريطانية لتدريب موظفيها الذاهبين إلى الهند، برز علماء باللغات الشرقية؛ مثل عالم العربية والفارسية والسنسكريتية السير وليم جونز الذي يعود إليه الفضل في تأسيس أول جمعية للمهتمين بالدراسات الشرقية في عام 1787. وبعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 انصب جهد البريطانيين على دراسة الشرق العربي وثقافته وتاريخه، فتأسست لهذا الغرض "جمعية الكشف عن فلسطين" التي أنجزت مجموعة من الدراسات المهمة، لا سيما حول جغرافية المنطقة، وظهرت عشرات الأعمال البحثية المتميزة، إضافة إلى مؤلفات الضباط والإداريين السابقين الذين جاءت نشاطاتهم أنموذجا حقيقيا للاستشراق السياسي. لكن الهند كانت ساحة لصراع عقائدي عنيف مع الاستعمار البريطاني الذي وجد في الإسلام أهم خطر يقف في طريقه؛ فأسهم الموظفون الإداريون البريطانيون بفاعلية في النشاط التبشيري وكان من أبرزهم السير وليم ميور الذي أصبح أحد أهم المستشرقين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خاصة بعدما أصدر كتابه الشهير "حياة محمد" الذي نشرته "جمعية تنمية المعرفة النصرانية" في عام 1861، وقد قام هو والسيدة صموئيل مارغوليوت بدراسة السيرة النبوية وتعاملا مع مصادرها الرئيسية؛ أي القرآن الكريم والحديث الشريف وسيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي. وفي هذا الصدد يعرض المؤلف مطاعنهما في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ويناقش أسلوب كل منهما في معالجة قضايا كحادثة الغرانيق ومغازي الرسول وسراياه قبل غزوة بدر وزواجه بزينب بنت جحش، ويظهر ما تفيض به معالجاتهما من تحيز بل تشويه لحقائق السيرة وتزوير لوقائعها وتجن على التاريخ الإسلامي!
ويناقش الكتاب نموذجين للاستشراق الإنجليزي؛ أولهما مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، والتي تتعلق أهدافها بتأهيل أولئك الذاهبين إلى الشرق وأفريقيا بغرض البحث أو التجارة أو الوظيفة، حيث كانت الحكومة البريطانية مهتمة في حينه بتزويد موظفيها في مصر والسودان وأفريقيا الوسطى وعدن وسواحل الخليج العربي والهند، بالقدرة على أداء واجباتهم بصورة فعالة، لذلك نأت المدرسة إلى حد ما عن دوافع التبشير لتتخذ لها طابعا أكاديميا مع اتصال وثيق بالسياسة البريطانية في الشرق.
لكن بخلاف ذلك، كانت "مجلة العالم الإسلامي" محصلة لجهود التبشير في الشرق الإسلامي؛ فقد دفع الصراع الذي دب بين البعثات التبشيرية كجزء من التنافس بين الدول الاستعمارية