خلال الحوار الذي جرى حول الانتخابات الرئاسية لعام 2000، كان قد وجه سؤال إلى ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي جورج بوش، حول مصادر النجاح المالي الملحوظ الذي حققه، بصفته مديرا تنفيذيا لشركة "هاليبرتون". فجاءت إجابته نفيا قاطعا لأن تكون للحكومة صلة بذلك. لكن منذ ذلك الوقت، بقيت تلك الإجابة عصية على التصديق، حتى بالنسبة لديك تشيني نفسه. كما لوحظ أن شركة "هاليبرتون" قد مضت بفكرة المجمع الصناعي-العسكري إلى مدى غير مسبوق. ومن خلال سعيها المحموم لأن تكون الشركة الصناعية المفضلة لدى وزارة الدفاع الأميركية، غدت هذه الشركة أكثر إثارة للجدل والشبهات.
في هذا الكتاب "أجندة هاليبرتون" يجعل المؤلف، المحقق الصحفي دان برويدي، من هذه الشركة وشركة "كيلوج براون آند رووت" التابعة لها، مادة قصصية غنية بالمعلومات والخبايا والأسرار حول المحسوبية السياسية، وعن التداخل بين المصالح المالية الاقتصادية والسياسية، وما أسفر عنه هذا التداخل من عقد صفقات مالية واستثمارية، أبرمت مع شركة هاليبرتون ومسؤوليها، فاحت رائحة الفساد المالي والسياسي من خلالها، حتى أزكمت الأنوف مؤخرا. وما كان ممكنا للمؤلف أن يفعل هذا، دون كشف النقاب وإماطة اللثام، عن ذلك التحالف المريب بين سلطة المال والسلطة السياسية، وفضح حدود التداخل المشبوه بينهما. وقد شملت "حفريات" الكاتب، وبحثه الشاق المضني عن الحقيقة، عدة قضايا وجوانب منها على سبيل المثال: متابعة نمط وانتظام فائض تكلفة إنتاج الشركة منذ الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى حرب فيتنام وحرب الصومال، وحتى حرب البوسنة. وكيف واصلت شركة هاليبرتون معاملاتها النفطية والمالية، مع دول ينظر إليها على أنها ترعى الإرهاب، على امتداد عقود عديدة. ومدى شرعية القرارات التي اتخذتها إدارة بوش، والصفقات العديدة التي أبرمتها مع عدد من الشركات التابعة لهاليبرتون- منها شركتا كيلوج براون آند رووت، و"لوجكاب" بهدف توفير الأخيرتين الخدمات والدعم اللوجستي للقوات الأميركية التي تقاتل في العراق. بل يمضي المؤلف بعيدا في إماطة اللثام عن سر الصفقة، التي أبرمتها إدارة بوش مع هذه الشركة، بغية مشاركتها في إعادة إعمار البنية التحتية لصناعة النفط في العراق.
ومن القضايا أيضا، الأسباب التي دفعت شركة هاليبرتون لتقديم رشوة مالية بقيمة 4.2 مليون دولار لموظف جمارك نيجري، وكيف حصلت على صفقة أسبستوس بقيمة 4.4 مليار دولار، مع إجرائها تعديلات على نظمها المالية، دون إخطار حملة أسهمها بتلك التعديلات. وأخيرا ما يثار الآن حول أن الشركة قد كبدت الحكومة الأميركية، خسارة مالية في صفقات وقود أبرمت معها في العراق، نتيجة لرفع الشركة أسعار المبيعات المنصوص عليها في تلك الصفقة. هذا وتشكل مجمل هذه القضايا وغيرها، من وجود ارتباطات قوية بين إداريي الشركة والمؤسسة العسكرية الأميركية، وكذلك المؤسسة السياسية في أعلى مستوياتها، وما تخلل هذه الروابط والعلاقات، من تزايد للنفوذ الاقتصادي والسياسي للشركة في الحياة الاستثمارية والسياسية الأميركية، مجرد قمة جبل الجليد، الذي لا يزال البحث جاريا عن بقية كتلته الضخمة، المخبوءة في الأسفل.
في معرض تحليله لأسباب وملابسات صعود نجم هذه الشركة وتابعاتها، اقتصاديا وسياسيا، يقف المؤلف مطولا عند تحليل فساد المؤسسة السياسية الأميركية في ظل الإدارة الحالية، وقدرتها على خلط أوراق السياسة بالمال، ودمج المصالح، عبر إبرام الصفقات المالية والاستثمارية المريبة. ولما كانت فكرة المجمع الصناعي- العسكري هي المعبر الذي تمر خلاله ممارسات الفساد هذه، فقد كان لابد له من أن يتناول طبيعة التحالف المشبوه الذي نشأ بين المؤسسة العسكرية والشركة المذكورة وتابعاتها. وفي وصفه لصعود نجم هاليبرتون، يرصد المؤلف هذه المسيرة التي قطعتها الشركة في زمن قياسي –كما لو كانت قفزا بالزانة من سهول وسفوح ولاية تكساس المغبرة، إلى الردهات والغرف الرخامية الأنيقة الفارهة في البيت الأبيض!
ولا يوارب المؤلف ولا يستخدم أية لغة رمزية في وصفه للفساد هذا، وتداخل المصالح المالية مع السلطة السياسية، وإنما يسمي الأشياء بأسمائها، ويقول مباشرة إن أصحاب المال قد تمكنوا من "شراء" ذمم الساسة، فنجحوا بذلك في تخريب نظم وقواعد وإجراءات التعاقد المعمول بها في البلاد، علاوة على ركوبهم موجة الحروب التي تشنها الإدارة، سعيا وراء المزيد من الأرباح. ويقول برويدي إن هذه الخطوات لم تتمكن الشركة من تحقيقها إلا عبر ممارسة الضغط الشخصي المباشر على المسؤولين، وإغرائهم والدفع بهم عنوة إلى غرف التفاوض السرية المغلقة.
يذكر أن الاستراتيجية الرئيسية التي تبنتها وزارة الدفاع الأميركية لفترة ما بعد الحرب الباردة مباشرة، هي تخصيص المهام والمشروعات غير العسكرية التابعة لها، لمقاولي القطاع الخاص. ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، قبل أن تكتمل بحقيقة أن ديك تشيني كان أحد المهندسين الرئيسيين لهذه الاستراتيجية، حين كان وزيرا للدف