مع بداية العام الجديد - أي في أقل من شهرين- يبدأ جورج بوش الابن ولايته الثانية في البيت الأبيض، ولمدة أربع سنوات أخرى، أي حتى بداية سنة 2009. وأولى خطوات التعامل الجدي مع واشنطن في عهد ولاية بوش الثانية، هي قراءة نتائج الانتخابات قراءة جيدة على أساس أنها انعكاس للحالة الذهنية لغالبية الشعب الأميركي في الوقت الحاضر. فبالرغم من القدرات الفكرية المتواضعة لجورج بوش الابن إلا أنه نجح فيما فشل فيه والده: أي الحصول على ولاية رئاسية ثانية. وليس هذا فقط، فبالرغم من أن نتائج الانتخابات الرئاسية تُبين نصراً متواضعاً، إلا أن القراءة المتمعنة والدقيقة لبيانات هذه الانتخابات، تؤدي بنا إلى نتيجة مختلفة. فقد فاز بوش أمام منافسه الديمقراطي جون كيري بأقل من 4 ملايين صوت، وتحديداً 3.660.000 صوت، وهي نسبة ضئيلة بالنسبة لعدد سكان الولايات المتحدة، وحتى بالنسبة للذين صوتوا فعلياً وبلغ تعدادهم حوالي 115 مليوناً. ولكن هذا الفرق بين بوش وكيري والذي كفل نجاح الأول على الثاني هو أكثر بكثير جداً مما فاز به بوش ضد آل جور في انتخابات سنة 2000، وكلنا نتذكر اللغط الذي حدث في هذا الوقت وتكرار إعادة عد الأصوات - خاصة في ولاية فلوريدا- للتأكد من أن بوش حصل فعلاً على أغلبية الأصوات. هذه المرة كانت النتيجة واضحة وقاطعة وتم التأكد منها في الساعات الأولى.
ويؤكد وضوح هذا النصر القاطع نتائج الانتخابات على مستويات أخرى من حكام الولايات إلى أعضاء مجلس النواب إلى أعضاء مجلس الشيوخ. فبالنسبة لحكام الولايات، فاز 29 حاكم ولاية جمهورياً بالمقارنة بـ21 حاكم ولاية للديمقراطيين، وبالنسبة للكونجرس بمجلسيه، لم يحافظ الجمهوريون على انتصارهم فقط، بل دعموه أيضاً، حيث زادت غالبيتهم بـ4 مقاعد إضافية في كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ. ونتائج الكونجرس في الواقع لها أهمية خاصة، لأنها تتعارض مع رغبة المؤسسين الأوائل في إرساء دعائم ديمقراطية أميركية تختلف عن الديمقراطية الأوروبية التي هاجر من دولها معظم المستوطنين الأوائل في الولايات المتحدة البكر. فقد خططوا الدستور بحيث لا يتم احتكار السلطة التنفيذية والتشريعية من حزب واحد أو جهاز واحد، بل يكون هناك توازن Balance بين الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي بحيث يكونان من أحزاب سياسية مختلفة، ولذلك لا تأتي الانتخابات التشريعية مرة واحدة، بل تتم على فترات كل عامين للتجديد الجزئي للأعضاء. ولكن ما حدث هذه المرة أن التجديد الجزئي حافظ على الأغلبية الجمهورية في المجلسين، وأضاف إليها ليدعمها.
هناك نقطة مهمة أخرى يجب لفت النظر إليها، وهي تغير أجندة الانتخابات. فبالمقارنة بانتخابات جورج بوش الابن وآل جور في سنة 2000، فإن أجندة انتخابات سنة 2004 أفردت مكاناً متميزاً لما يعتبر في نظر الكثيرين خارج الولايات المتحدة موضوعات سياسية خارجية مثل العراق، والحرب على الإرهاب... صحيح أن هذه الموضوعات ليست بالنسبة لجماهير الشعب الأميركي موضوعات سياسية خارجية بالمعنى المتعارف عليه، بل تتداخل تداخلاً وثيقاً منذ أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 مع السياسة الداخلية. إلا أنه بالمقارنة مع أجندة الحملة الانتخابية في سنة 2000 حيث كانت السياسة الخارجية هي الغائب الأكبر، فإن أجندة انتخابات سنة 2004 كانت جد مختلفة. وفي الواقع فإن بوش كان يبذل قصارى جهده لكي تكون موضوعات السياسة الخارجية هذه على سلم الأولويات، بينما حاول كيري أن يغير من أجندة الانتخابات لكي يضع الموضوع الاقتصادي في أول سلم الأولويات، ولم ينجح في خطته هذه كما لم ينجح في الانتخابات. وأعتقد أن جزءاً كبيراً من نجاح بوش هو الربط المفرط بين موضوعات مثل العراق وأفغانستان والإرهاب والهاجس الأمني الذي يسيطر على أغلبية الأميركيين منذ الهجوم الانتحاري على نيويورك وواشنطن في سبتمبر سنة 2001، ونجحت هذه الاستراتيجية في ضمان الأصوات المطلوبة للفوز وذلك رغم ازدياد عدد الضحايا الأميركيين في العراق والكذب والخداع الذي أحاط بهذا الغزو منذ البداية.