عندما حطت الطائرة العمودية الأردنية على الأرض وهي تحمل الجسد المنهك لياسر عرفات بعد أن أقلعت به من رام الله، فإن حتى أولئك الذين ظلوا يعارضون ويقاتلون الرئيس الفلسطيني قد شعروا بفورة من الاحترام في تلك اللحظة المشهودة. فعرفات انفصل عن فلسطين المصدر الرئيسي لمعنى وقوة حياته.
لقد ظل لعدة عقود يصارع من أجل هذه الأرض، بعد أن حول حكايتها إلى واقع سياسي شغل العالم وتحول هو إلى رمز عالمي لحلم عودة الأمة إلى وطنها. فمن هو هذا الرجل؟
هو بطل بالنسبة لمعظم الفلسطينيين ولكنه إرهابي في أعين غالبية الإسرائيليين. وهو شخصية تجمع بشكل نادر بين صفات المكر والاحترافية والمهارة والغموض. ويعترف حتى المقربون منه بأنهم لا يفهمون الرجل ويجدون صعوبة في بعض الأحيان في فك شفرة تصرفاته. وكان عرفات قد أعلن في السابق أنه "متزوج بقضية فلسطين". فقد نذر حياته لها وحرم نفسه من ملذات الدنيا في سبيلها (على الرغم من ادعاءات الاستخبارات الإسرائيلية بأن هذا الأمر لم يمنعه من تحويل ملايين الدولارات الخاصة بالسلطة الفلسطينية إلى حسابه المصرفي الخاص في سويسرا).
إنه رجل تؤرقه فكرة واحدة هي تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة والتي تهون في سبيلها جميع الوسائل والسبل. قاد حملة الحرية من الاحتلال الإسرائيلي، وقام رجاله بعمليات ضد المدنيين الأبرياء. وبرشاقة يحسد عليها كان يرتحل من دولة إلى أخرى يجالس ويشاور السياسيين وكبار رجالات الدولة من دون أن تطرف له عين. أخل عرفات باتفاقيات كان قد وقع عليها بيديه ولكنه نجح أيضاً في قيادة شعبه إلى العديد من الإنجازات. وإلى مدى معين استطاع خلق وصياغة فلسطين كدولة ولكنه في نفس الوقت ألحق بشعبه العديد من المآسي والأخطاء القاتلة التي انتهت بهم إلى هذا الظرف السيئ.
ظل عرفات يثير مشاعر مختلفة في أوساط الغربيين. فالعديد منهم يحترم إرادته الصلبة ولكنهم يستنكرون عليه سلوكه الذي يميل إلى التقلب وعدم الثبات. إلا أن الفلسطينيين ظلوا ينظرون إليه بصورة مختلفة. فعلى سبيل المثال كان يجلس إلى منصة في القاهرة في عام 1994 للتوقيع على إحدى الاتفاقيات التي صادفت الفشل لاحقاً، في وسط كبار الزعماء الغربيين يملؤه شعور طاغٍ بالثقة وربما شيء من الغرور. ويبدو أن الفلسطينيين قد أحبوا فيه هذه المواقف تحديداً، لأنه جلس وسط هذه المجموعة من أعظم رجال السياسة في العالم الذين يملكون الدول والجيوش والأموال وهو ما زال في نظرهم مجرد لاجئ معوز يطوف البلدان متسولاً ويمارس اللعب بالقطعة المعدنية الوحيدة التي بحوزته لكي يحقق لشعبه ولنفسه ما يعتبرونه الحد الأدنى من متطلبات وحاجات البقاء.
ولكن ما الذي سيحدث الآن في السلطة الفلسطينية؟ هناك احتمال بأن الفوضى والاضطرابات التي ما زال بالإمكان السيطرة والتحكم فيها بفضل السلطة الرمزية لعرفات قد تخرج عن عقالها وتؤدي إلى حرب أهلية بين الميليشات والجماعات المتصارعة، وخاصة ما بين منظمة "فتح" التابعة لعرفات والمنظمات الإسلامية المتطرفة. وهذا أمر وارد إذا ما وضعنا في الاعتبار ذلك التوتر الذي يسود العلاقات بين الفصائل الفلسطينية بسبب وجود مدن وقرى فلسطينية تحت حكم وإشراف السلطة الفلسطينية ما زالت تعاني من وجود عصابات إجرامية تمارس الإرهاب الداخلي في محاولة للتكسب على حساب ضعف الحكومة المركزية. وهناك احتمال ثانٍ بأن يؤدي الخوف الشديد من الاضطرابات والفوضى إلى خلق نوع من الوحدة حتى ولو بشكل مؤقت في أوساط الشعب الفلسطيني. وفي هذه الحالة سيتم اختيار خليفة لعرفات سيعمل بدوره على تجسير هوة الخلافات التي تعصف بشعبه. وسيتعين على الزعيم الجديد مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والدخول في نفس الوقت في مفاوضات تهدف إلى نوع من اتفاقية للسلام بأسرع فرصة ممكنة. وهذا الخليفة المحتمل سيصبح في موقف لا يحسد عليه حيث سيرث شعباً منقسماً على نفسه يعاني من مجموعة من المرارات التي جلبتها عليه 4 حروب و37 عاماً من الاحتلال. ومن الملاحظ أن الفلسطينيين لم تثرهم وتحركهم الأحداث الأخيرة بالشكل المتوقع حيث لم يتجمع إلا عدد قليل من المواطنين لوداع الرئيس عند مغادرته إلى باريس، ولقد أظهر معظمهم نوعاً من اللامبالاة واليأس أثناء مناقشاتهم وبخاصة من شعب تعود على أن أي نوع من التغيير لن يجلب معه سوى المزيد من المشكلات والمعاناة.
ومن جهة أخرى فقد سادت في إسرائيل حالة من الارتباك، إذ ظل رئيس الوزراء أرييل شارون يستغل عرفات كمبرر رئيسي في عدم الجلوس في مفاوضات مع الفلسطينيين. ولقد رفع شارون شعار "ليس هناك شريك" بمهارة يحسده عليها الكثيرون دون رد فعل يذكر من جانب عرفات .
والآن ومع إمكانية غياب عرفات من المسرح السياسي فما هي التبريرات التي ستسوقها إسرائيل من بعده؟ في الحقيقة أن إسرائيل لم تجد شريكاً حقيقياً في جهود السلام إلا عندما كان عرفات يمسك بزمام السلطة. ولا أحد يدري كم سيمر من الوقت قبل أن يتمكن خليفة عرفات من تحقيق الاستقرار في السلطة الفلسطينية. ولا ذلك