خلال الأسبوع الفائت تداولت الصحف صورتين متناقضتين للمشهد العراقي. الصورة الأولى تسليم ميليشيات الصدر لأسلحتها للحرس الوطني العراقي. والصورة الثانية لثلاثة من جماعة "الزرقاوي" وهم يوجهون البنادق نحو رأس الرهينة التركي، حيث هددوا بقتله خلال ثلاثة أيام، وضمن الخبر المرافق للصورة أن جماعة "الزرقاوي" قد نحرت رهينة تركياً آخر.
وظهر في الصحف الخليجية من يتباكى على الصورة الأولى ومضامينها، ويتهم الذين سلموا أسلحتهم - وكلهم من الصدريين- بأنهم تجار حرب، وليسوا مجاهدين- وأنهم يشكلون عبئاً على المقاومة! بل ويمعن هؤلاء في "تكفير" الفعل المسالم بتسليم الأسلحة، وأن من قاموا بتسليم أسلحتهم ليسوا سوى مجموعة صغيرة. وأن الموضوع برمته جاء إثر اتفاق واضح ومبادرة مخطوطة لوضع حد لإراقة الدماء في العراق. وأن الاتفاق جاء بين الحكومة العراقية والتيار الصدري.
بالنسبة للصورة الأولى أيضاً، إن ما يحدث في العراق ليس من مصلحة العراقيين، لأن الأميركان لن يخرجوا من هذا البلد - وهو يرفل بالفوضى والقتل- وهذا ما تنكره الاتفاقيات الدولية التي تنظم شؤون الاحتلال. وأن الضحايا بين الطرفين العراقي/ العراقي أكثر وأكبر مما هو بين الأميركان. ومن ذهب من العراقيين الأبرياء وغير الأبرياء سيضيع من أهله. وعليه، فإن الحلم بأن ما يسمى "المقاومة" لن يزيد إلا في القسوة والظلم على الشعب العراقي. ولأن سيكولوجية الحنين إلى الوطنية، دوماً تحقن للعامة الذين لم ينالوا من العلم كثيراً، فإنه ذات الحال في المشهد العراقي. إذ ذاق هذا الشعب الويلات إبّان الحكم السابق، وصحا بين يوم وليلة ليجد نفسه حراً، يحمل السلاح، ويتحدث ويتظاهر دون أن يخاف من مخابرات صدام أو جنوده. كما جاز له الانتقام العفوي بتحطيم الأصنام المنتصبة على أرض العراق، تماماً كما دخل القصور الرئاسية، وأخذ محتوياتها كونه يظن - وظنه صحيح- أنها من دمه وعرقه. ولما لم يتحقق الأمن - بسبب الأخطاء الأميركية بحل الأمن والجيش العراقيين- نشطت لديه روح الحنين الوطنية، وبدأ يحاول تغيير الأوضاع بكل الوسائل، حتى القتل، من أجل تثبيت الحرية والوطنية التي حُرم منها أكثر من ثلاثين عاماً.
بالنسبة للصورة الثانية، وهي مشهد إعدام أو التهديد بإعدام الرهينة التركي من قبل ثلاثة من المسلحين التابعين لجماعة "الزرقاوي"، نحن نعتقد أن تجار الحروب يبحثون دوما عن مناخ استثماري ناجح، وبيئة صالحة لتحقيق أهدافهم. وحيث إن هؤلاء "يعزفون" على الوتر الديني -ولقد تبرأ من أعمالهم رجال دين كثيرون بما فيهم الأزهر الشريف- فإن مسوغات ذبحهم للأبرياء تترسخ في أذهان الدهماء وبعض فاقدي الأمل في الحياة، ويعتبرون ذلك النحر لرقاب الأبرياء شهادة دخول الجنة. وتلك مغالطة كبرى، لا تضر العراق فحسب، بل إن سمح لها بالانتشار فلسوف تطال رؤوس كثيرين في المنطقة، بل إن الذين يغذون هذا التيار، وهم من خارج العراق، كما أشار إلى ذلك مسؤولون عراقيون، سينقلبون على الدول التي تساندهم ويمارسون نفس الهواية، "الذبح"، في بلدانهم.
وما يتعلق بالصورة الثانية أيضاً، أنها تحمل مضامين كره الناس وبغضهم وبربرية القائمين على تلك الأعمال، وطالما أن هؤلاء يربطون أعمالهم "النحرية" بالإسلام، فإن الإسلام - في النهاية- هو الضحية الكبرى، كونه الباقي، والناس راحلون. كم من الوقت نحتاج لتصحيح الصورة، وهي ثقافة جديدة في بعض أنماط الحكم العربية، وفي أذهان الدول والشعوب المتحضرة؟ وكم من الوقت نحتاج لنقول للعالم: هؤلاء ليسوا من الإسلام، ونحن نشاهدهم وهم يضعون كلمة (لا إله إلا الله) على رؤوسهم وهم يباشرون عملية "النحر"؟. نحن لم نرض بما قام به التتار في أرضنا، ووصفناهم بأحط الأوصاف، وقاومناهم عندما جاءوا لنهب البلاد العربية وإخضاعها لسلطانهم، وهل ما تقوم به الجماعات هذه الأيام إلا سلوكاً يقترب من السلوك التتاري الذي يؤمن بالقتل وجزّ الرؤوس وتحطيم الحضارة؟!
إن الصورة التي تأتي من العراق مؤلمة، ولكنها لا تضر الشعب العراقي ومستقبله فحسب، بل تضر الشعب العربي والإسلام، بصورة خاصة، أيما ضرر! كما أن التعويل على الفوضى -التي يعيشها العراق حالياً- وبالتالي زرع المزيد من الفوضى والقتل العشوائي، لن يفيد مستقبل العراق، بقدر ما يضع العصا في العجلة ويجهض جهود الحكومة العراقية في مساعيها.
ويحق لنا التساؤل هنا: ماذا تريد جماعة "الزرقاوي"، هل تريد الحكم؟ جميل! إن الحكم في العالم المتحضر يأتي عن طريق صناديق الاقتراع، ولتصبر هذه الجماعة ومن حولها شهرين أو أقل لموعد الانتخابات لتدلي بأصواتها لمن تحب؟. وهل سيرضى الشعب العراقي المجيد بحكم جماعة تريد أن تعيده أربعة عشر قرناً إلى الوراء؟. ثم هل يمكن أن يوافق جيران العراق والولايات المتحدة، بل والعالم المتحضر على حكم كهذا؟.
إن الذين يحلمون كثيرون في هذا العالم! أما محبو الانقلابات والفوضى فيتكاثرون، لكنهم جبناء في الدفاع عن حقوق شعوبهم، جبناء في الوقوف أمام سلطان جائر، جبناء حتى