بدلا من السلام والاستقرار الذي وعد به "المحررون" فإن العراق يتحرك الآن بلا رحمة باتجاه نوع من الفوضى المتفاقمة، والعنف المتصاعد. فعمليات المفجرين الانتحاريين، والضربات الجوية الأميركية أدت إلى مصرع المئات من المدنيين العراقيين معظمهم من النساء والأطفال. كما قامت منظمة العفو الدولية بإجراء تحقيق عاجل في مسألة قيام القوات الأميركية بقتل المدنيين العراقيين، وذلك كما حدث عندما قامت طائرة هليوكوبتر أميركية بضرب حشد في شارع حيفا في بغداد في سبتمبر الماضي مما أسفر عن مصرع 13 مدنيا منهم فتاة صغيرة ومصور يعمل مع تلفزيون"العربية".
والأمين العام للأمم المتحدة "كوفي عنان" حدد أخيرا بشكل واضح، وبلهجة قاطعة ونهائية، موقف المنظمة الدولية من الحرب التي تقودها أميركا على العراق عندما وصف تلك الحرب بأنها "غير شرعية". وعلى رغم كل ذلك ما زال بوش يواصل عناده من خلال القول إن "الولايات المتحدة تحقق تقدما في العراق"، وهو ما يمكن أن يدفعنا للتساؤل عما إذا كان بوش رجل منفصل عن الواقع، أم أنه يمارس التضليل عن سابق معرفة؟
في الآونة الأخيرة اعترف مسؤولون حكوميون أميركيون بأن هناك تقييم استخبارات وطنيه تم إعداده لبوش في يوليو الماضي، قدّم صورة قاتمة عن الوضع في العراق، حتى في ضوء أفضل السيناريوهات الممكنة. ولكن بوش قلل من أهمية ذلك التقييم، وأصر على التمسك بالواقع كما يراه واستشهد في ذلك برئيس الوزراء العراقي الذي كان في زيارة رسمية لواشنطن والذي "سيشرح لكم ما يحدث على أرض الواقع"- كما قال الرئيس. ولم يجد إياد علاوي وهو متعاون مع الاستخبارات المركزية الأميركية سوى أن يتجاوب مع طلب بوش ويؤكد "أنه من بين محافظات العراق الثماني عشرة فإن هناك 14 أو 15 محافظة آمنة تماما".
ولكن الواقع الذي تؤكده الوثائق مختلف تماما عن واقع بوش وعلاوي، حيث تشير تقارير أمنية خاصة أنه على مدار فترة 30 يوما غطاها ذلك التقرير لم تسلم محافظة عراقية واحدة من وقوع هجمات. والكثيرون من الاختصاصيين في الـ"سي. آي. إيه" يرون أن الوضع في العراق كارثي، كما أن الضباط الأميركيين الكبار يؤيدون هذا الرأي. ليس هذا فحسب بل إن وزير الخارجية "كولن باول" نفسه اعترف بأن العصيان في العراق آخذ في الاستفحال. على رغم ذلك اكتفى بوش في مناظرته الأولى بالقول: أنا أدرك صعوبة الأوضاع هناك... فأنا أشاهد التلفزيون وأدرك مدى صعوبة تلك الأوضاع.
وهناك تطوران حدثا في بداية أكتوبر أثارا تساؤلات بشأن أمانة بوش وبشأن تضليله للأمة والزج بها في حرب. التطور الأول: أن مفتش الأسلحة الأميركي المعين من قبل بوش "شارلز دويلفر" أكد على النتائج التي توصل لها سلفه "ديفيد كاي"، وهي أن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل محظورة. وكان رد الإدارة على تقرير "دويلفر" قولها إن بوش اعتمد على معلومات مغلوطة قدمت له، وبالتالي فهو بريء من تهمة تضليل الشعب الأميركي.
التطور الثاني أن صحيفة "نيويورك تايمز" أجرت تحقيقا شاملا أكدت أن البيت الأبيض قد قام بتحريف معلومات استخبارية، لإخافة الشعب الأميركي والكونجرس، ودفعهما لتأييد الحجج التي قدمها بوش لشن الحرب.
والنظرية التي تقول إن بوش ربما يكون قد ضلل الأمة، لأنه كان آخر من يعلم تبدو مغرية. وهذه النظرية مؤيدة بطائفة لا حصر لها من الأدلة الشفهية، ولكنها أدلة لا تصمد أمام المساءلة لأنه حتى إذا ما افترضنا أن تلك الأدلة قد جرى التحقق منها، فإن ذلك لا يعفي الرئيس من المسؤولية. علاوة على ذلك، هل من المعقول أن رئيس أقوى دولة في العالم، يمكن أن يسمح لنفسه بأن ينحدر تماما إلى درجة يصبح معها موضعا للتلاعب والاستغلال من قبل الغير، أو أن يكون على هذه الدرجة من الإذعان في مشروع خطير مثل مشروع تضليل أمة بكاملها والزج بها في حرب؟.