فاز الرئيس بوش بالولاية الثانية بأغلبية ضئيلة، وغدا ثانيةً رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان العديد من الاستراتيجيين الأميركيين والأوروبيين وغيرهم قد لاحظوا أن فرقاً حاسماً لم يكن ذا حضور بين الرئيس الفائز والمرشح الخاسر، فقد كانوا - في ذلك- قد وضعوا أيديهم على ما قد يُعتبر حاسماً في الدراسات الاستراتيجية الأميركية، وهو أن المرحلة المعاصرة من تاريخ الولايات المتحدة لا تحتمل مجيء رئيس جديد من "طراز آخر". أما هذه المرحلة فقد حددها، مع مقدّماتها وإرهاصاتها ثم تحولاتها اثنان من المنظّرين المرموقين هما "زبغينو بريجنسكي" أولاً، و"صموئيل هنتينغتون" بعده (وهو معاصر لنا).
يكتب "بريجنسكي" - وكان ذلك قبل ظهور النظام العالمي الجديد وبالتالي قبل الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 -: "إن أميركا، وهي تتحول باطراد إلى مجتمع متعدد الثقافات، قد تجد صعوبة متزايدة في تكوين إجماع على قضايا السياسة الخارجية إلا في حالة تهديد خارجي مباشر يكون كبيراً حقاً ومحسوساً على نطاق واسع". (ص 259 من كتاب بريجنسكي: رقعة الشطرنج الكبرى-الترجمة العربية 1999). وقبل المضي إلى الأمام في آراء "بريجنسكي" على هذا الصعيد، نودّ أن نقدم ملاحظتين اثنتين. أما أولاهما فتقوم على الإجماع الذي تحدث عنه الكاتب وغيابه في المجتمع الأميركي في حال تحوله إلى مجتمع متعدد الثقافات يمكن أن نفتقده ليس على صعيد السياسة الخارجية فحسب، بل كذلك على صعيد السياسة الداخلية. لكن الملاحظة الثانية تتمثل في أن أميركا بقياداتها السياسية لا تحتاج إلى تهديد حقيقي لها من خارج فحسب كي تحقق إجماعاً على قضايا سياستها الخارجية، وإنما هي -كذلك وفي سبيل مثل هذا الإجماع على سياستها الداخلية- تلفق تهديدات خارجية وهمية. وهذا ما واجهناه في صيغة الحادي عشر من سبتمبر، الذي جرى تلفيقه في سبيل تدفق الولايات المتحدة باتجاه العالم كله تحقيقاً للاستراتيجية العولمية الجديدة، أي لإنتاج "القرية أو السوق الكونية السلعية".
ويأتي "بريجنسكي" على جانب آخر من المسألة، حين يرى أن نمط التغير الثقافي الأميركي يتحول إلى صيغة غير محفّزة للممارسة الأميركية للقوة الإمبراطورية في الخارج. ذلك أن هذه "الممارسة تتطلب درجة عالية من الدفع العقائدي والالتزام الثقافي والإشباع الوطني، في حين أن الثقافة السائدة للبلاد قد أصبحت تتركز باطراد على اللهو الجماعي الذي خضع بشدة لتأثير مواضع حسية على الصعيد الفردي، وهروبية على الصعيد الاجتماعي". (ص 9)؛ ناهيك عن أن مبدأ اللذة الفردية المفرطة واللهاث وراء استهلاك مفتوح، أضعفا ويضعفان الشعور بالاستحقاقات الحضارية في الداخل، وجعلا هذا الأخير ضعيف الاستجابة للمطالب العسكرية الإمبراطورية.
إن ذلك الذي تحدث عنه "بريجنسكي"، يظهر بمزيد من الوضوح في كتابات "هنتينغتون"، خصوصاً حين يقرر ما يلي:"هناك صورتان لقوة الغرب بالنسبة للحضارات الأخرى، الأولى هي صورة لسيطرة وسيادة غربية شاملة. والصورة الثانية للغرب مختلفة تماماً. إنها صورة حضارة تنهار، نصيبها من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم في هبوط مستمر بالنسبة لنصيب الحضارات الأخرى. انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يسفر عن فوز، بل عن إنهاك.. واستعداد المجتمعات الأخرى لقبول أوامر الغرب أو التقيد بنصائحه يتبخر بسرعة، وكذلك ثقة الغرب بنفسه وإرادته في السيطرة". (صدام الحضارات - الطبعة الثانية بالعربية 1999، ص 133-134).
ونخلص من ذلك إلى أن وعود بوش التي أطلقها بعد فوزه الانتخابي وأعلن فيها أنه سيهتم بأمرين اثنين في ولايته الثانية، هما تحسين صورة أميركا في العالم بعد تحولها فيه وباطّراد إلى كابوس وإعادة بنائه على نحو إيجابي لعلاقاته بأوروبا، نقول إن تلك الوعود من الصعوبة الفائقة أن تتحقق، لأن النظام العالمي الجديد المؤمرك لا يحتملها بالاعتبار البنيوي الموضوعي، وهي - كذلك- بالاعتبار الذاتي المتعلق بشخصية القيادة السياسية لبوش ولمن حوله، لأنه في تكوينه "السوسيوثقافي" والسياسي والأخلاقي غير مؤهل لذلك.
من هنا، كان ما وعد به بوش بمثابة عهد يرتطم بجدار مغلق تاريخياً، ربما حتى في حال من الشعور بالقلق والإنسانية وتأنيب الضمير قد يمرّ بها الرئيس، إذا ما تذكر ما فعله في العراق خصوصاً من تدمير له تاريخاً وراهناً وتحت ذريعة "اكتشف" أنها كاذبة وزائفة، ونعني بها حيازة العراق على أسلحة دمار شامل.