تعود المحللون أن يتباهوا بعد وقوع حدث ما بصدق تنبئهم بما جرى علامة على دقة تحليلهم وجدارته العلمية، ولم يسلم كاتب هذه السطور من هذه السمة الإنسانية من حين لآخر، غير أن الموضوعية تفرض من ناحية أخرى أن نتدارس أيضاً إخفاقنا في التوصل إلى تنبؤات صحيحة بشأن بعض القضايا المهمة، وعليَّ هنا أن أعترف بأني كنت واحدا من الذين توقعوا فوز المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية، وأعلم أن ذلك كان نوعاً من السباحة ضد التيار إلى حد ما، لأن نتائج استطلاعات الرأي العام إما أنها رجحت بقوة فوز بوش وإما أنها تضاربت فيما بينها أحياناً بشأن تقدم طفيف لمنافسه وإن أشارت مع اقتراب المعركة الحاسمة إلى ضيق الفارق بينهما بل وتفوق جون كيري ولو بهامش ضئيل في بعض الأحيان.
عندما صارحت بعض الزملاء بتوقعاتي تلك كان رد فعلهم الأول أنني خلطت بين التحليل العلمي والأمنية الشخصية، وقد اعترضت على هذا التفسير حيث إنني بحكم اهتماماتي العلمية قضيت ردحاً من الزمن أتابع انتخابات الرئاسة الأميركية وأجهد العقل في محاولة معرفة من يكون من المرشحين أقرب إلى المصالح العربية لأكتشف أن النتيجة واحدة في النهاية: حتى عندما يفوز من توهمنا أنه يفهمنا أكثر فإن خط التأييد الأميركي لإسرائيل ثابت أو متصاعد مع استثناءات غير مؤثرة تعد على أصابع اليد الواحدة في عشرات السنين.
لا يمكن إذن أن يكون التمني هو سبب ما وقعت فيه من خطأ، فقد بنيت توقعاتي على ما نُسب لبوش من إخفاقات اقتصادية في الداخل لا أُفَصِّل فيها، وخطايا سياسية في الخارج بدأت بردود أفعال طائشة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ثم عدوان غير شرعي على دولة مستقلة بحجة ثبت زيفها وانتهت بورطة سياسية وعسكرية حقيقية على أرض العراق. تصورت أن هذا وذاك بالإضافة إلى ما نشرته التقارير عن زيادة متوقعة غير مسبوقة لمشاركة فئات اجتماعية مهمة كالشباب والأميركيين السود سوف يفضي في النهاية إلى فوز كيري خاصة في ضوء التقارب الشديد بينهما في الأيام الأخيرة.
لكن الشعب الأميركي قال كلمته واختار بوش رئيساً له لأربع سنوات أخرى، ومعنى هذا ببساطة شديدة أن سياسة بوش في مكافحة "الإرهاب" التي يرفضها العالم كله تقريباً على نحو ما سنرى كانت سببا رئيسيا في فوزه على عكس ما اعتقد البعض وأنا منهم، فقد فاز بوش بأصوات أكثر سواء على الصعيد الشعبي أو على صعيد المجمع الانتخابي، ويثير هذا قضايا عديدة مهمة مثل سهولة خداع الرأي العام بتخويفه –وهي لعبة خطرة يمكن أن يرتد فيها السحر على الساحر لكن هذا لم يحدث في حالة صاحبنا- وقد أثبتت إحدى الدراسات أن نسبة تأييد بوش كانت تزيد بزيادة تخويفه للشعب الأميركي من "إرهاب" قادم، وثمة قضية أخرى يمكن أن تثار في هذا السياق وهي تلك القضية القديمة عن الديمقراطية والعدوان. بعبارة أخرى كيف تفضي الديمقراطية كأسلوب حكم إلى سياسات عدوانية على الصعيد الدولي، إذ جرى بعض المفكرين والمحللين على أن الديمقراطيات -عكس النظم الاستبدادية- لا تصنع حروبا لكننا إزاء حالة صارخة تزايد فيها تأييد الشعب الأميركي لرئيس اتضحت بشكل صارخ سياساته في شن حروب استباقية ولو على نحو غير شرعي.
لكن المسألة الأهم في تقديري تبقى أن الشعب الأميركي اختار رئيسا يكرهه العالم، وليس العرب وحدهم هم الذين تشيع في أوساطهم مشاعر الكراهية تجاه رئيس يقصف بشكل يومي على نحو لا إنساني إخوة لهم في العراق بدعوى أن هناك "إرهابيين" يتحصنون بينهم، ويساند على نحو مطلق إسرائيل التي تقوم بالعمل نفسه في فلسطين، وإنما ثبت أن العالم كله تقريبا -على حد قول إحدى الصحف الإسرائيلية- يعارض بوش إلا إسرائيل.
كتب "بيتر أزنر" و"أندي موشير" من واشنطن تحت عنوان "سقوط الرئيس الأميركي حلم العالم الثالث" ما يفيد بأن استطلاعات الرأي العام التي جرت في بلدان أميركا اللاتينية قد كشفت عن أن المواطنين هناك يميلون بشكل أكبر للمرشح الديمقراطي على الرغم من أنهم يدركون أنه لا توجد احتمالات تذكر لأن تسفر الانتخابات الرئاسية الأميركية عن تغيير ملموس في درجة اهتمام أميركا بشؤون تلك المنطقة. ويقول الصحفي الأفريقي "أديم دوكوتي" إن الانطباع العام عن بوش في كثير من دول أفريقيا هو أنه رئيس مثير للحروب أدت سياساته إلى أن تسود العالم حالة من الاستقطاب مما زاد من المخاطر التي تواجه شعوب الأرض. واستنتج "جوناثان شايت" من لوس أنجلوس أن الطغاة وحدهم هم الذين يؤيدون بوش، ونضيف إليهم إسرائيل كما سبقت الإشارة.
وإذا انتقلنا إلى دولة كبرى كالصين نجد أن "أزنر" و"موشير" يضيفان أن حالة العداء لبوش تسود بين المواطنين الصينيين الذين يرون فيه "راعي بقر متهور" لا يكترث بدول العالم أو بالمنظمات الدولية وهذا بالإضافة إلى واقعة المقالة التي نشرت في مطلع هذا الشهر في صحيفة "تشاينا دايلي" والتي كتبها "جيان كيتيشن" نائب رئيس الوزراء السابق وأحد أهم الموجهين لسياسة بكين الخارجية، وتضمنت نقدا لاذعا لسياسة بوش الخارجية انصب على أن أبرز