تم اللقاء الأخير بيني وبين عرفات منذ أسابيع قليلة في أطلال مقره المدمر برام الله، حيث تناولنا عشاء متواضعاً ماسخاً مكوناً من الحساء والخضروات. كان الرجل يرتدي زيه العسكري الشهير في حين تجمعت على الطاولة التي يجلس إليها مجموعة من الملفات في انتظار توقيعه. كان الرجل يحاول أن يعطيك الانطباع بأنه قائد مقاومة مسلحة في حين أن إسرائيل يمكن أن تنتهي منه بسهولة خلال دقيقة، وأن عملية اتخاذ القرار تتم وفقاً لنظام محدد في حين أن الفوضى حلت محل السلطة الفلسطينية منذ زمن طويل.
بيد أن المنظر كان في حد ذاته تجسيداً لحقائق السلطة. فمن ضمن زواره في تلك الليلة كان هناك نفر من مساعديه الذين كان بعضهم قد تحدى الرئيس علنا في الآونة الأخيرة. وفي تلك الليلة كانوا هم الذين يتحدثون في حين كان عرفات يتصنع الاهتمام، وكانت نظرة واحدة على المشهد كافية لكي تجعلنا نعرف من هو السيد ومن التابع.
بالنسبة لصناع السياسة الأميركيين، كانت قدرة عرفات على ممارسة هذا النوع من السلطة سبباً لحيرتهم المستمرة. كان هؤلاء الساسة يعتقدون أن عرفات يجب أن يتم تقييمه بناء على الطريقة التي يحكم بها، والإنجازات التي يحققها، لا بناء على أي شيء آخر.
بالنسبة للفلسطينيين كان الأمر مختلفاً تماماً. فهم يقدرون الرجل لأنه في نظر الكثيرين منهم يعتبر تجسيداً للشعب بأسره في المقام الأول. فهو الرجل الذي تسلم قضيتهم، ونجح في تحويلها إلى قضية تشغل العالم وتحظى بالاحترام. كما أنه الرجل الذي نجح في تفادي محاولات دول عربية عديدة لإخضاع المقاومة لمصالحها، والذي استطاع الحفاظ على استمرار المقاومة على الرغم من كل شيء.
إن عرفات حقق من خلال تجسيده للشعب الفلسطيني أكثر مما حققه عن طريق القيادة- وهو سبب آخر من أسباب الحيرة الأميركية تجاهه. فهو لم يكن يسعى إلى فرض القرارات فرضاً، ولم يحكم عن طريق إخضاع منافسيه بواسطة القوة وحمامات الدم. كان الرجل تجسيداً لآليات السياسة الفلسطينية وليس خالقاً لها، وكان تعبيراً عن الإجماع الشعبي، وكان أكثر الناس قدرة على قراءة الإمكانيات المتاحة أمام الفلسطينيين، والقيود والمحددات المفروضة عليهم. ولعل هذا هو السبب الذي جعله يحجم عن اتخاذ إجراءات قاسية ضد عمليات حماس والجهاد الإسلامي من أجل فرض النظام، كما كان هو السبب الذي جعله- حتى وهو يقترب من نهايته- يخشى أن يؤدي انسحاب إسرائيل من غزة إلى حدوث صراع بين مراكز القوى المتنافسة فيه. إن هذه "الجماعية الفوضوية" في القيادة وهذه (الفوضى المتحكم فيها) على الأرض كانت هي الخلفية التي يستند عليها في الاختيار من بين البدائل، وكانت هي التي وفرت له أكبر مساحة للمناورة .
لم تكن للزعيم الفلسطيني في أي وقت استراتيجية كبرى، وإنما كان يعتمد على الحدس وعلى البراجماتية السياسية القصيرة الأجل. فهو كان يؤمن بتسوية سلمية تقوم على حل الدولتين، ولكنه كان يؤمن أيضاً بأن هذا الحل يمكن تحقيقه في بعض الأحيان عن طريق العنف. فعملية تقييم الآثار السياسية البعيدة المدى بالنسبة لقراراته لم تكن مهمة بالنسبة له، وكانت الدبلوماسية من طرف، والعنف من طرف آخر يمثلان قوام قيادته. فإذا كان العنف يساعد في المدى القصير على تحقيق أهدافه، فلا مانع من اللجوء إليه، وعدم القيام بشيء جدي من أجل إيقافه.
وعلى الرغم من أن هذه السمات كانت سبباً في عجزه عن اتخاذ القرارات الحاسمة، ومحاولته اللعب على جميع الحبال، إلا أنها كانت في نفس الوقت هي السمات والمكونات التي ساعدت الحركة الوطنية الفلسطينية على الاستمرار حتى الآن.
وهذه السمات هي التي رافقته إلى مقره الأخير المدمر في رام الله الذي ظل حبيساً فيه قرابة ثلاث سنوات. فهناك ظل الرجل وفياً للمبدأ الذي يؤمن به وهو: قف بصلابة واجلس هادئاً. كان الرجل هناك ينظر إلى أية محاولة أميركية أو إسرائيلية للحل، على أنها محاولة لإضعافه والنيل من سلطته وشق الصف الفلسطيني. وكانت المصلحة الوطنية والمصلحة الشخصية في نظره شيئاً واحداً تقريباً.
والسؤال كيف يمكن لهذه الحركة التي أنشأها عرفات أن تستمر بدون عرفات؟
لم يكد الزعيم الفلسطيني يغادر مقر المقاطعة إلى باريس حتى كان الرباط الذي يربط الجميع معاً قد بدأ في التحلل، وظهرت على الفور مراكز عديدة للنفوذ متمثلة في قوة العائلات والعشائر والمليشيات المسلحة. إن موت عرفات في نظري سيفتح فراغاً كبيراً اجتهد طيلة حياته ألا يتمكن أحد من ملئه.
هناك خلفاء محتملون لعرفات ولكن مصدر شرعيتهم الرئيسي هو القرب منه. كان الرجل يمتلك أوراق اعتماد شخصية وتنظيمية وتاريخية وديمقراطية في حين لا يمتلكون هم شيئاً منها.
ومن ضمن هؤلاء الخلفاء يبرز محمود عباس وأحمد قريع باعتبارهما الوحيدين اللذين يتمتعان بشرعية دستورية ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وشرعية تاريخية مستمدة من قضائهما عقوداً طويلة إلى جوار عرفات.
ولكن قيادتهما العلمانية ستواجه معارضة من المنظمات المختلفة مثل حماس والجهاد