الذي يطالع تاريخ البشرية، قديمه وحديثه، يجد رجالاً خلقوا ليتحملوا مشقة البناء، وتزيدهم المواقف والشدائد صلابة وتدفعهم إلى مصاف الزعماء والقادة العظام. ولكن من النادر أن نجد رجالاً يملكون القدرة على صنع المستقبل، كما يرونه في أحلام مجتمعهم، ويشعرون بأن طريقهم المحتوم هو تحمل قدرهم لتحقيقه. فقد جاءوا إلى الحياة وهم يتحلون بالحكمة والقدرة على القيادة منذ نعومة أظافرهم. إنهم رجال وهبهم الله مقومات خاصة، وأكسبتهم الحياة بصيرة نافذة، وآمنوا بالرسالة التي يحملونها لصالح شعوبهم وأوطانهم. ولذلك يدفعهم العمل بأناة وصبر إلى مواجهة التحديات وتخطي الصعاب من أجل تحقيق أهدافهم السامية، والوصول إلى الغايات العليا لصالح أوطانهم. ومن بين هؤلاء جميعاً يأتي المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كأحد هؤلاء الرجال النادرين. جاء مولد الشيخ زايد من عشيرة آل نهيان التي تزعمت قبيلة بني ياس العربية الأصيلة، وتولت الحكم في المنطقة المعروفة بإمارة أبوظبي منذ أوائل القرن السابع عشر الميلادي، فنشأ على التقاليد والأعراف القبلية التي تحمي ولا تهدد، وتكرم الضيف وتصون العهد، وتواجه الشدائد. وسرعان ما دفعته والدته الشيخة سلامة، التي كان يكن لها رحمه الله كل حب وتقدير، إلى تعلم القرآن وهو في التاسعة من عمره، فدرج على مبادئ الحق وقيم العدالة وعقيدة العطاء والتسامح. وفي مجالس القبيلة التي كان يحضرها مع والده سلطان، فهم مبكراً مسؤولية القيادة وحكمة التعامل مع المواقف الطارئة والأزمات. وعايش حياة البداوة القاسية بما تشتمل عليه من معاناة وصعوبة، ليتعلم الشيخ زايد رحمه الله من هذه الحياة القاسية أول الدروس، وهو أهمية التكاتف والتقارب بين البدو للتغلب على شظف الحياة ومواجهة ما تحفل به الصحراء من مخاوف وأهوال.
وفي مرحلة الشباب تولى الشيخ زايد عام 1946 أول منصب سياسي وإداري في حياته وهو ممثل حاكم إمارة أبوظبي في العين، وكان أول عمل له هو إحياء شبكة الأفلاج التي تنقل الماء من جبل حفيت إلى أرض الواحة وما حولها من قرى. وقد شارك الشيخ زايد بنفسه في تنظيف الأفلاج وإعادة بنائها، ليعطي المثل والقدوة في حل المشكلات بصورة عملية من جانب وتحقيق العدالة في توزيع المياه لري المحاصيل وسد احتياجات الزراع وأسرهم من جانب آخر.
وتوالت إصلاحات الشيخ زايد في منطقة العين. فقد أنشأ سوقاً كبيرة لإنعاش حركة التجارة، وشيد قلعة فريدة في طرازها، وأقام أول مدرسة ابتدائية بجهوده الذاتية، وقام بتطوير البنية التحتية مما نتج عنه إحلال السلام والأمن في منطقة العين، ووضع حداً للحروب بين قبائلها، فتغير وجه الحياة الاجتماعية والحضارية في هذه المنطقة.
بحلول أغسطس من عام 1966 تولى الشيخ زايد مسؤولية الحكم في إمارة أبوظبي خلفاً لأخيه الشيخ شخبوط، نزولاً على رغبة أسرته. وقد كانت تلك خطوة مفصلية جوهرية في تاريخ أبوظبي، وتاريخ المنطقة التي شهدت بعد خمس سنوات ظهور دولة الإمارات العربية المتحدة.
بدأ الشيخ زايد حكمه للإمارة ببناء المؤسسات اللازمة التي تستطيع أن تحقق رؤيته الاستراتيجية لمعركة البناء والتنمية الشاملة، حيث تم لأول مرة تشكيل حكومة لإمارة أبوظبي، وفتح المجال أمام الطاقات الوطنية الشابة لتشارك في البناء والتطور. ودأب الشيخ زايد رحمه الله على العمل جنباً إلى جنب مع العاملين معه، وكان يتخذ من الإجراءات ما يذلل به المعوقات، ومن القرارات ما يساعد على تسيير أمور التطوير والبناء لإمارة أبوظبي التي أصبحت تسير بثبات نحو التحديث والتقدم.
لم تمض بضع سنوات إلا وتغير وجه الحياة في الإمارة، وشاع آنذاك وصف ما يحدث بـ"المعجزة التنموية"، وكان الذي يترك الدولة لأيام أو أشهر ثم يعود إليها يُصدم بحجم التغيرات والتطورات التي تحدث في كل مكان، وفي كل ميدان من ميادين الإنجاز. كانت الإمارة معسكراً للعمل الذي لا يهدأ، فقد شقت الطرق وأقيمت الجسور والمنازل والأسواق التجارية ومرافق المياه والكهرباء والصرف الصحي ومشروعات البنية التحتية على اختلافها، وأقيمت المدارس والمستشفيات في سباق مع الزمن لتعويض ما فات. وقد آل الشيخ زايد على نفسه ألا يهدأ ولا يغمض له جفن إلا بعد أن يقدم لأبناء شعبه كل أسباب الحياة الكريمة، ويوفر لهم الخدمات التي حرموا منها زمناً طويلاً.
وفي فترة حكمه لأبوظبي، برزت الملامح الأساسية للرؤية التي تعمقت وتأطرت بعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من أن الشيخ زايد واصل طريقه الذي بدأه منذ كان حاكماً للعين، فإن فترة حكمه أتاحت لتجربته أن تكون أكثر ظهوراً وبروزاً، وأن يؤكد رحمه الله أن مبادئه ومثله التي ظهرت أثناء حكمه للعين لم تكن إلا جزءاً من فهم ثابت للحياة والممارسة السياسية، يقوم على المبادئ الخلقية الكريمة والسلوك القويم قدر ما يقوم على المهارة السياسية والفهم الواقعي للأحداث والظروف الإقليمية والدولية. كانت المنطقة تعج بالعداوات التي تبدو بلا حل، ولكن يده الم