عندما تلقينا خبر وفاة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه، كانت اللحظة بالنسبة لي لحظة ذهول وعدم تصديق وربما عدم استيعاب لهول الصدمة ورغبة في عدم التصديق. فزايد بالنسبة لنا شعب الإمارات هو الأب الحنون الذي لا نريد أن يصيبه مكروه ولا نحب أن نسمع عنه ما يدل على مجرد تكدر خاطره، فما بالك وأن نسمع بخبر وفاته. هكذا فجأة ونحن في غربة تبعدنا عن الأهل والأوطان وبلاد زايد الخير آلاف الأميال.
إنني لست هنا بمعرض تعداد مناقب زايد فهي لا تعد ولا تحصى، وإن حاول كل البشر القيام بتعدادها. ولكن أهم مناقبه بالنسبة لنا أبناء الإمارات هي خلق المواطن الإماراتي القادر على تحمل مسؤولية بناء الوطن. فمنه تعلمنا حب الوطن والتفاني والإخلاص في خدمته، ومنه تعلمنا الصبر على ذلك والمثابرة في طلبه إلى أن يتحقق. ومنه تعلمنا كرم الأخلاق وطيب المعشر. ومنه تعلمنا الحكمة والتروي في الحكم على الأمور وحل الإشكالي منها بالصبر والتأني.
كان زايد يدعو دوماً إلى إعداد المواطن القادر المسلح بالعلم والمعرفة والإخلاص لقضايا الوطن، لكي تكون لديه القدرة على ممارسة واجباته كمواطن صالح ويحفظ حقوق وطنه وحقوقه الشخصية. وانطلاقاً من الحكمة التي منحها الخالق لزايد تكونت لديه فلسفته الخاصة تجاه الاهتمام الشديد بالمواطن، لأنه اعتقد أن المواطن الصالح هو ثروة هذا الوطن الحقيقية. اعتبر زايد أن المواطن أغلى استثمار يمكن للدولة أن تنميه وتهتم به. لذلك فإن اهتمامات زايد كانت طوال حياته منذ أن كان حاكماً للعين قبل اكتشاف النفط تبدأ بالمواطن وتنتهي بالمواطن. وكل ما عدا ذلك ليس مهماً، إلا إذا كان يصب في صالح المواطن.
لذلك نراه وقد عمل طيلة حياته حتى عندما كان المال شحيحاً في يده في توفير أسس سبل العيش الكريم للمواطنين. وعندما منّ الله على الوطن بالثروة سخرها ما استطاع لتوفير التعليم والصحة وأسباب الرفاهية الأخرى لبني وطنه.
إن هذا القول ينطلق من تجربة شخصية مررت بها عندما استقبلنا في مجلسه في قصر الحصن صيف عام 1967، وكان وقتها في أولى سني حكمه. كنت ضمن فريق جوالة هدفه استكشاف الجزيرة العربية موّلت رحلته حكومة الكويت كجزء من نشاط صيفي لطلبة المدارس ويضم ستة أفراد، أربعة من الكويت واثنان من الإمارات. وما أن علم رحمه الله، بأنني مع زميل آخر من الإمارات حتى انفرجت أساريره وانشرح صدره وطلب منا بحنو الأب الحنون أن نجلس إلى جانبه مباشرة أحدنا على يمينه والآخر على يساره.
كنت المتحدث الرسمي للفريق وأجلس إلى يمينه عندما بادرني بسؤال لم أتوقعه أو حتى لم أكن جاهزاً لإيجاد إجابة عليه حين قال: هل تعتقد بأن ثروة أبوظبي ستكفي جميع سكان الإمارات؟ فتلعثمت قليلاً ثم قلت بعفوية شاب يافع ربما لا يحسن الإجابة السياسية على سؤال كهذا، بأن ذلك سيعتمد على كيفية استخدام تلك الثروة، ثم صمتُّ. فنظر إليّ ملياً ثم قال بارك الله فيك. ففعلاً إن الأمر يتوقف على كيف ستستخدم الثروة، وأنا أطمئنك بأنها ستستخدم بإذن الله لصالح إنسان الإمارات أينما كان. ومرت الأيام والسنون وعمل القائد رحمه الله بعد أن أرسى صرح الاتحاد على أن يعم الخير الجميع متخطياً حدود الإمارات لكي يصل إلى الإنسان في كل مكان.
لقد انتقل زايد إلى جوار ربه، ونحن حزانى عليه أشد الحزن وتقطر قلوبنا دماً وحسرة. ونشعر في حلوقنا بغصة وأسى ولكن ذلك هو قضاء الخالق. فهو الذي وهبنا هذا القائد الذي قاد سفينة الإمارات إلى بر الأمان، وهو الذي اختاره إلى جواره. إن عزاءنا في زايد أنه لم يتركنا وحيدين فقد خلّف لنا إخوة يحبوننا ونحبهم وسيعملون بإذن الله جاهدين على إكمال المشوار الذي بدأه والدهم والد شعب الإمارات جميعاً، فهم خير خلف لخير سلف ودعاؤنا لهم بالتوفيق.
رحمك الله يا زايد الخير وطيّب ثراك وأسكنك فسيح جناته. إنا لله وإنا إليه راجعون.