بعد أن انتهت المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة إلى ما انتهت إليه، قد يكون من المفيد دراسة الخريطة الإدراكية للناخب الأميركي (أي كيفية رؤيته للواقع وطريقة استجابته للأحداث) حتى يتسنى فهم كثير من جوانب ما يُسمى "ديمقراطية صناديق الانتخاب" هناك. وبداية يمكن القول إنه رغم الحديث الممل عن الديمقراطية، فإن ثمة تقسيماً للعمل بين النخبة الحاكمة والجماهير في الولايات المتحدة، بحيث تصبح السياسة الخارجية والأمن الخارجي من تخصص النخبة الحاكمة، على أن تُترك الأمور المحلية مثل النظام التعليمي وصناديق المعاشات والرعاية الصحية للجماهير. وبالإضافة إلى هذا، نجحت النخبة الحاكمة بعد 11 سبتمبر 2001 في إضافة الأمن الداخلي إلى مهامها، عن طريق بث الرعب في قلوب المواطنين الأميركيين. وقد نجحت النخبة الحاكمة في فرض هذا التقسيم للعمل لعدة أسباب، من بينها أن الحداثة المادية الغربية نجحت في إعادة تشكيل الإنسان الغربي بحيث أصبح إنساناً اقتصادياً جسمانياً يحركه أمران هما مصالحه الاقتصادية المباشرة وسعادته أو لذته المادية. ومثل هذا الإنسان ذو بعد واحد لا يكترث بأية أمور تقع خارج نطاق حواسه الخمس، والعالم الخارجي والسياسة الخارجية أمور بعيدة للغاية عن هذا النطاق.
ورغم اهتمام هذا الإنسان الاقتصادي الجسماني بمصالحه الاقتصادية المباشرة، فإنه لا يفهم العلاقات الاقتصادية المتشابكة، فلا يرى العلاقة بين الإنفاق العسكري في العراق (الذي تجاوز 200 مليار دولار) والرعاية الصحية، على سبيل المثال. وقد ذكرت إحدى الإحصائيات أن الحرب في العراق تكلِّف كل أسرة أميركية 3415 دولارا، وأن تكاليف الحرب كان يمكن أن تزود 23 مليون أميركي بالمسكن والرعاية الصحية، وأن توفر الرعاية الصحية لنحو 27 مليون أميركي لا يتمتعون بالتأمين الصحي، وأن تضمن الرعاية الصحية اللازمة لنحو 82 مليون طفل. إلا أن مثل هذه الإحصائيات لا تجد طريقها للنشر على نطاق واسع، أو تُنشر بشكل يهمشها.
ومن ناحية أخرى، يؤدي تشابه برامج الحزبين الرئيسيين في مجال السياسة الخارجية إلى مزيد من اختلاط الأمور لدى الناخب الأميركي، وعدم فهم ما يدور في العالم الخارجي أو علاقة الإنفاق العسكري بحياته الشخصية. وفضلاً عن ذلك، فإن المواطن الأميركي يصدق كل ما يقوله له الإعلام الأميركي، ولا يستمع إلى إذاعات أجنبية إلا فيما ندر. فعلى سبيل المثال، تغطي نشرات قناة CNN التي نراها هنا في العالم العربي أحداثاً متنوعة في العالم أجمع، سواء كانت أحداث دارفور أو انتخابات إندونيسيا أو الأزمة السياسية في أوكرانيا، أو الاضطرابات في كشمير، أما النشرة التي يشاهدها المواطن الأميركي فمختلفة تماماً. فقد تكون الأمور مشتعلة في غزة والضفة الغربية وقد تجتاح القوات الإسرائيلية إحدى المدن الفلسطينية وتدمر عشرات المنازل وتقتل الأطفال والعجائز، وقد تغتال بعض قيادات المقاومة، ولكن نشرة CNN المحلية لا تذكرها على الإطلاق أو تكتفي بذكرها بشكل عابر، وكأنها حادثة مسلية، بينما قد تركز هذه النشرة على حادث اختطاف طفلة في أريزونا، ويمكن أن تتوقف نشرة الأخبار بسبب وصول "خبر عاجل" مثل العثور على شريط شعر أحمر يُحتمل أن يكون خاصاً بالطفلة المختطفة!
والصحف الأميركية مقسمة بالطريقة نفسها فهناك صحف ومجلات النخبة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست، والتايم ونيوزويك، وتوزيعها محدود للغاية، حيث لا يقرؤها سوى أعضاء النخبة السياسية والثقافية. وهذه الصحف تغطي كل القضايا الأساسية في العالم ولا تكتفي بنشر الأخبار وإنما تعطي تحليلات متعمقة في بعض الأحيان، بل وقد يوجد فيها كاتب يقدم تحليلاً غير متحيز لمجريات الأمور في الشرق الأوسط أو في غيره من المناطق الساخنة في العالم.
أما أكثر الصحف انتشارا فهي صحيفة مثل US NEWS واهتمامها ينصب بالدرجة الأولى على الشأن الداخلي، وموقفها من العالم الخارجي لا يختلف كثيراً عن موقف المحافظين الجدد وهي تتبنى الرؤية الإمبريالية الأميركية بلا تحفظ، شأنها شأن قناة "فوكس نيوز"، وهي أكثر القنوات التليفزيونية انتشاراً. ويزداد الأمر سوءاً مع الصحف والإذاعات والقنوات التليفزيونية "المحلية"، أي تلك التي لا تُنشر أو تُبث على مستوى الولايات المتحدة ككل وإنما على مستوى الولاية أو المدينة. فمثل هذه الصحف لا تنشر أية أخبار خارجية، إذ ينصب اهتمامها على نشر بعض الأخبار الخاصة بالولايات المتحدة بدون أي تحليل، ثم أخبار الولاية والمدينة، مثل آخر الزيجات واجتماع "الروتاري" أو افتتاح جسر جديد، وما شابه ذلك من أمور عظام وأحداث جسام. كما تشغل إعلانات السلع مساحات هائلة من هذه الصحف، وهي تقدم للقارئ بطاقات (كوبونات) يمكنه استخدامها للحصول على تخفيضات، مما يجعله في النهاية محصوراً في نطاق الاستهلاك الفردي فحسب. ولا تختلف الإذاعات والقنوات التليفزيونية المحلية عن ذلك كثيراً.
وهناك إلى جانب كل هذا صحف الفضائح، التي تسمى التابلويد Tabloid والتي تتخصص في نشر قصص