فقدت دولة الإمارات العربية المتحدة والأمة العربية جمعاء زعيماً تاريخياً ورجل دولة من الطراز الأول وإنساناً قلّ أن يجود الزمان بمثله. ولقد توقفت طويلاً عند كلمتين بسيطتين صادقتين وردتا في بيان ديوان الرئاسة الذي نعى راحلنا الكريم بقوله إن الشيخ زايد قد انتقل إلى جوار ربه "راضياً مرضياً". وشعرت أن من صاغوا ذلك البيان قد صادفهم التوفيق باختيارهم لهاتين الكلمتين. فالمعنى الذي تشيران إليه لا يمكن أن ينسحب إلا على إنسان وقائد بقامة زايد وإنجازاته، وهي إنجازات شملت الوطن والأمة. فأشاعت الرضا عنه في كل مكان في دولة الإمارات خاصة والوطن العربي عامة، وأكاد أقول إن زايد هو الحاكم العربي الوحيد الذي لم أسمع عنه في زياراتي المتعددة لدولة الإمارات من ناحية وللأقطار العربية الأخرى من ناحية ثانية كلمة نقد واحدة، أو ألمس بخصوصه أية مشاعر سلبية وإن كانت طفيفة. فقد نجح في أن يكتسب ثقة الجميع في أنه مخلص لقضايا شعبه، جاد في خدمتها، قادر على تحقيق الإنجازات في هذا الصدد، مما أشاع مناخاً من الرضا والسكينة والاستقرار في أنواء عاصفة كهذه التي تعرض لها وطننا العربي وما زال.
لابد أن يكون الشيخ زايد قد امتلك نسيجاً إنسانياً متفرداً رفعه إلى هذا المستوى من التواضع والإخلاص لوطنه وأمته والدأب في خدمتهما، وحسن إدارة الموارد المتاحة في هذا الخصوص بما جعل إنجازاته الوطنية والقومية تبرز كعلامة تاريخية في سجل الوطن والأمة.
محلياً ارتبط اسم الرجل بتجربة تكوين دولة الإمارات العربية المتحدة التي جاءت لتمثل نغمة صحيحة في أمة عربية تطلع أبناؤها دوماً إلى الوحدة، ولكنهم تعثروا في مسعاهم للوصول إليها بسبب بعض الصياغات الأيديولوجية الجامدة والممارسات السياسية العقيمة. فقد أهملت محاولات وحدوية عديدة سبقت تجربة دولة الإمارات أو جاءت في أعقابها قضيتي التوازن بين أطراف الوحدة والتنوع المشروع في إطارها، غير أن تجربة دولة الإمارات راعت هذين البعدين الضروريين لنجاح أية تجربة وحدوية، فاتسمت باستقرار لافت يثق في استمراره إن شاء الله.
والواقع أن التاريخ سيتوقف طويلاً أمام عدد من التجارب الوحدوية التي نجحت في إنجاز خطوات مهمة على طريق الوحدة في الوطن العربي، ولنا أن نتخيل الواقع العربي الراهن لو لم تتحقق وحدة الدولة السعودية أو وحدة الدولة في جنوب اليمن ثم وحدة اليمن ككل فيما بعد، أو وحدة الإمارات السبع في إطار التجربة التي لا شك في أن الشيخ زايد كان صاحب الفضل الأول في إنجازها ثم الحفاظ عليها وتعزيزها.
وفي إطار الدولة الاتحادية الناشئة أظهر الشيخ زايد حساً مرهفاً بالمواطن العادي في دولته، فكان من أولئك الحكام الذين لم يزين لهم علو المنصب التجافي عن شعوبهم، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حبا دولة الإمارات بإمكانات مالية واسعة، فقد كان الشيخ زايد هو صاحب المقولة الشهيرة "لا فائدة للمال إذا لم يسخر لصالح الشعب". ولذلك وجد المواطن العادي أن دولته لا تبخل عليه بتلبية كافة احتياجاته، وشعر بالرضا، وترسخت بذلك شرعية حكم زايد بين أبناء وطنه.
غير أن عطاء زايد لم يتوقف عند حدود وطنه الإمارات وإنما امتد إلى أمته العربية، فقد أظهر اهتماماً فائقاً بالتنمية في الأقطار العربية ولم يبخل عليها بمال، ويكفيه فخراً أن سد مأرب التاريخي لم يقدر له أن يعاد بناؤه إلا في عهد زايد وبتمويل منه، وسيبقى هذا السد مع غيره من صروح التنمية العربية التي يحمل بعضها اسمه في عدد من الأقطار العربية خير شاهد على عطاء هذا الرجل لأمته. والواقع أنني لم أشعر بقيمة ما فعله هذا الرجل إلا بعد أن توفرت على دراسة متعمقة لموضوع تأثير الثروة النفطية على النظام العربي، ولمست بالدلائل القاطعة درجة الهدر الذي وقع في استغلال هذه الثروة وطنياً وقومياً، حتى اعتبر عديد من الكتاب أن تلك الثروة باتت مصدر ضعف وإفساد أكثر منها مصدر قوة. غير أن الشيخ زايد بقي ضمن قلة قليلة من القادة أراد الله أن تحسن توجيه هذه الثروة في الاتجاه الصحيح.
وسيذكر التاريخ للشيخ زايد دبلوماسيته العربية الراسخة، التي أشاعت قدر الطاقة جواً من التسامح في العلاقات العربية- العربية، وحرصت على أن تكون طرفاً في عديد من الوساطات التي حاولت أن تنزع الفتيل من خلاف عربي أو تبني جسور الثقة بين أطراف استدرجت إلى صدام. ولذلك حظيت دبلوماسية دولة الإمارات العربية المتحدة في عهده بمكانة رفيعة واحترام متزايد في الأوساط العربية. بل إن سعة التسامح الذي عمل قدر طاقته على إشاعته في مناخ العلاقات العربية- العربية امتدت حتى إلى علاقاته بالخصوم فحافظت على ثوابت الحقوق الوطنية في القضايا المعلقة بين دولة الإمارات وإيران، لكنه في الوقت نفسه لم يشأ أن يصب مزيداً من الزيت على النار فتعامل مع قضية الجزر الثلاث التي تحتلها إيران بهدوء الواثق من حقوقه دونما سعي إلى مزيد من التصعيد في توقيت لا يعد ملائماً.
غير أن تمسكه بالحقوق العربية في فلسطين كان لافتاً. ولم تستدرج