فقدت الأمة العربية والإسلامية مساء يوم الثلاثاء الماضي شخصية بارزة من شخصياتها وقياداتها الفذّة. فالشيخ زايد لم يكن زعيما عاديا، بل كان مؤسس دولة وموحد كيان سياسي عربي جمع شمل سبع إمارات مختلفة، كانت تتقاطع حدودها مع بعضها بعضاً بشكل مبتسر، ورصّها في كيان وجسد سياسي واحد.
لم يكن مثل هذا العمل يسيراً، بل شاقاً بكل المقاييس ولقد كان تصور المرحوم الشيخ زايد هو أن يوسع هذا الكيان في فترة تاريخية حاسمة، عقب انتهاء الاحتلال البريطاني لمنطقة الخليج العربي، ويجعله يشمل إمارات عربية أخرى مثل قطر والبحرين وغيرها. ولكن الصورة الكبرى لم تكتمل، واكتملت صورة وحدة سبع إمارات في كيان سياسي متقارب جغرافياً، ومتماسك سياسياً. وحينما سنحت فرصة تاريخية أخرى في ربط دول الخليج العربية ببعضها بعضاً، لم يتوان الشيخ زايد رحمه الله في العمل الحثيث مع زملائه من قادة دول الخليج العربية، لإنشاء هيئة إقليمية تسعى إلى توحيد أقطار الخليج العربية في منظومة واحدة، سميت بمجلس التعاون لدول الخليج العربية. ولقد اختطت هذه المنظمة الإقليمية لنفسها منذ البداية العمل على توحيد القوانين والأنظمة والتشريعات المالية والجمركية وغيرها، لإنشاء توحد خليجي بدءاً في المجالات الاقتصادية، ومن ثم أن تنطلق هذه التجربة في مجالات أخرى سياسية واقتصادية وقانونية.
والحقيقة أن تجربة الإمارات تجربة فريدة بعض الشيء بالنسبة لفكرة الوحدة العربية. فلقد عَرف المرحوم ببصيرة ثاقبة أنه لا يمكن إزالة الجدران القائمة بين البلدان العربية عبر قرار سياسي واحد. ومع ذلك فقد كان يؤمن إيماناً عميقا بوحدة هذه الأوطان، وبمصيرها المشترك. وبينما كانت معظم التجارب العربية السابقة في الوحدة تقوم على وحدة انصهارية، وقيام دولة مركزية واحدة، فإن حنكة الشيخ زايد وزملائه من مؤسسي دولة الإمارات العربية المتحدة، دعت إلى اختطاط نهج جديد في الوحدة يقوم على نظام فيدرالي عربي، يوازن بين خصوصية كل كيان سياسي صغير، وبين انتمائه لكيان دولة أكبر وأكثر منعة. وهكذا نجحت تجربة دولة الإمارات في الوحدة، بينما فشلت وللأسف تجارب أخرى لم تتخذ مثل هذه الوسيلة المتئدة والمتوازنة في توزيع السلطات والصلاحيات بين المركز والأطراف.
الشيخ زايد يمثل نمطاً مهماً من أنماط الزعماء والبناة، ومثله في ذلك مثل الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي استطاع كذلك أن يوحّد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية في كيان سياسي واحد. ومثل هؤلاء الزعماء لم يكونوا يتفوقون على أمثالهم بالتعليم، ولكنهم تفوقوا على أقرانهم من الزعماء الآخرين بالذكاء الحاد، والرؤية المستقبلية الثاقبة ومحاولة الاستفادة من اللحظات التاريخية التي تخدم الأهداف والبرامج السياسية التي يطمحون إلى تحقيقها.
كان الشيخ زايد رحمه الله رجلا إصلاحيا ومنفتحا بطبعه، ولم يؤثر تراث الصحراء في انغلاقه أو انعزاله، بل على العكس من ذلك، فقد كانت رؤيته رؤية تحديثية إصلاحية. فمنذ أن قاد حركة تصحيحية في أغسطس من عام 1966، وهو يسعى سعيا حثيثاً لإنشاء دولة متمدينة حديثة، تحافظ على تراثها الأصيل، وتبني مجتمعها على أسس قوية ومتينة.
ولا شك أن نموذج التحديث في الخليج العربي والجزيرة العربية قد أصبح نموذجا يحتذى به في أماكن عديدة. وبينما عانت نماذج أخرى في العالم الثالث من حالات صراعية نتيجة لعملية التحديث فإن النموذج الخليجي الذي اختطه عبدالعزيز آل سعود وزايد بن سلطان آل نهيان وغيرهما من القادة الأوائل كان نموذجا سلميا حاول استغلال الثروات التي حبا الله بها هذه البلدان لخلق دول جديدة متمدينة، وبناء مؤسسات سياسية قوية قادرة على البقاء والاستمرار لفترة طويلة قادمة بعون الله.
لم يكن الشيخ زايد ولم تكن دولة الإمارات دولة منعزلة أو بعيدة عن محيطها العربي أو مسؤولياتها الإقليمية والدولية. فقد دعم الشيخ زايد القضايا العربية بكل ما يملك، وبنى مدينتين سكنيتين في كل من غزة وجنين، تحتوي كل واحدة منهما على (500) منزل لإيواء الفلسطينيين الذين هدمت قوات الاحتلال بيوتهم.
كما مدّ يده إلى بلدان إسلامية وحاول دعم استقرارها بإرساله لقوات حفظ سلام إماراتية إلى البوسنة، أثناء الحرب المدمرة التي جرت على أراضيها وحصدت جزءاً من شعبها المسلم.
وفي ميدان السياسة الخارجية، حرص الشيخ زايد على حل كل القضايا الإقليمية، بما في ذلك قضية الجزر الإماراتية المحتلة بالطرق السلمية، وعن طريق المفاوضات دونما تفريط بالحقوق التاريخية لدولة الإمارات وشعبها. وفي نفس الوقت سعت دولة الإمارات في عهده إلى تثبيت حدودها الإقليمية مع الدول المجاورة، بشكل يسعى في الأمد البعيد لتكريس السلم الإقليمي والتنمية المستديمة لدولة الإمارات وشقيقاتها من الدول الخليجية.
وعزاؤنا في الشيخ زايد أن هذه المؤسسات السياسية التي بنيت في عهده، وهذه الوحدة التي بناها أبناء الإمارات وقادتها ستبقى إن شاء الله صامدة أمد الدهر. وسينجح أبناء زايد وأشقاؤه من بعده في قيادة