حمى الانتخابات وأخبارها تتصدر صفحات الصحافة في هذه الأيام، ولا تقتصر هذه التغطية على الحالة الأميركية والتي تتابعها سائر أقطار المعمورة من حيث إن نتائجها تتجاوز الحدود الجغرافية للولايات المتحدة، فالصندوق الانتخابي ماثل أمامنا من أفغانستان إلى تونس، ومن روسيا البيضاء إلى أوكرانيا، ومن إندونيسيا إلى موعد العراق. حتى الدول التي لم تعهد الانتخابات كالمملكة العربية السعودية أصابتها مقدمات هذه الحمى الحميدة، وهي تستعد لخوض تجربتها مع الانتخابات البلدية.
وبطبيعة الحال تختلف التجربة من بلد إلى آخر مما يعني أن التعميم غير وارد. ففي الحالة الإندونيسية نجد أن فوز الجنرال المتقاعد يعد تعزيزاً للانتقال الهادئ والإيجابي من نظام سوهارتو الشمولي إلى مثال لدولة وتجربة إسلامية واعدة. ويشير هذا النجاح إلى أن جاكرتا تسير على نهج المأسسة والمشاركة وتتحدث بلغة العصر الحديث الذي نعيش فيه. وفي أفغانستان ساهم نجاح التجربة في تعزيز تجربة الانتقال من ظلام التجربة الطالبانية ومن التمهيد للخروج من ويلات الحرب برغم أن البلد ما زال يعاني من آثار تجربة مؤلمة. أما في تونس فلعل التجربة أكثر روتينية والنتيجة محسومة سلفاً تماماً كحالة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو في روسيا البيضاء.
وتبرز عدة استنتاجات مبدئية لابد من التطرق لها، وأول هذه الملاحظات أن الانتخابات تمثل لغة هذا العصر والحكم الفيصل في التنافس الذي يمثل جوهر العملية السياسية، وهذه الحقيقة تدركها مجموعة متنامية من الدول ومن النظم السياسية، سواء كانت هذه الدول جادة في تعاملها مع هذه الأداة السياسية المهمة أم تتستر خلف الانتخابات هروباً من التعامل مع الاستحقاقات التي تواجه نظمها السياسية. فالانتخابات تعطي النظام السياسي الشرعية، وهي، كما أوردنا، الفيصل في معظم الحالات بين التيارات والتجاذبات في أية مساحة سياسية، فمن خلالها يتحدد حجم القوى المتنافسة، كما أنها الأداة السلمية لاستقرار المجتمعات وتداول السلطة بين هذه التيارات السياسية. ومن الطبيعي أن فاعلية الانتخابات ترتبط ارتباطاً طردياً بدرجة شفافيتها، وعدالتها. وكما رأينا في المثال الجزائري السابق خلخل الناخبون القوى السياسية المختلفة لنكتشف عملياً أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يبقى خيار الجزائريين للمرحلة المقبلة. فبرغم تضخيم الإعلام لحجم بعض القوى والتيارات إلا أن الانتخابات كانت بمثابة الامتحان الضروري لقياس حجم كل تيار وموقعه ضمن الساحة الوطنية.
الملاحظة الثانية، أن الانتخابات وسيلة وليست غاية وهي أحد الجسور لبناء الدول الحديثة المؤسسية، وفي هذا الجانب ندرك أن الانتخابات المزورة والمعدة نتائجها سلفاً لن تتمكن من أن تلعب الدور المفترض في بنائها للمؤسسات، بل لأنها عملية لا يمكن الاحتكام إليها فلن تكون نتيجتها معززة للنظام السياسي بل تزيد من الشقاق والافتراق في المجتمع. ومثل هذه الحقيقة البيّنة لن تلغيها سيطرة السلطة، ولن يلغيها الإعلام الموجه والأجهزة الأمنية المتعسفة، بل بإمكاننا أن نضيف أن لجوء هذه النظم للانتخابات، وحتى إن زورتها، يأتي من خلال إدراكها أن هناك ضرورة للسير في هذا الطريق ولأسباب داخلية وخارجية.
ونأتي للبعد الدولي. فالانتخابات سنة بعد أخرى أصبحت أحد المقاييس الحيوية والتي يتم من خلالها الحكم على تطور النظام السياسي وحيويته بل وشرعيته. فالنظام المنتخب يمتلك شرعية أكبر من ذلك الذي وصل للحكم من على ظهر دبابة أو من خلال مؤامرة حزبية. وفي عالم اليوم نرى أن العديد من الجمهوريات والتي لم تدعم وجودها من خلال الآلية الانتخابية أكثر تعرضاً للتدخلات الخارجية في شؤونها، والطريق إلى تعزيز جبهتها الداخلية أمام تعسف القوى العظمى لن يتحقق إلا من خلال دعم شرعيتها من خلال التأييد والغطاء الشعبي الذي توفره لها العملية الانتخابية.
ننتظر نتيجة الانتخابات الأميركية خلال الساعات القادمة لنعرف التغيرات في ساحتنا الإقليمية وفي الساحة الدولية، ونتساءل إن كنا أمام استمرار للنهج الجمهوري لسنوات أربع قادمة أم أن الديمقراطيين ورئيسهم المنتظر جون كيري سيغير من هذا النهج كما هو متوقع.