ساد وقت كانت تعقد فيه كل دولة تزعم انتهاجها للديمقراطية، الانتخابات العامة لاختيار قادتها، بينما تنشغل بقية دول العالم الأخرى بمجريات شؤونها الداخلية. غير أن ذلك العصر قد انتهى الآن، لا سيما إن كانت الانتخابات هذه، تجري في الدولة العظمى الوحيدة في العالم. فلم يحدث مطلقاً كما أذكر، أن أولى الجمهور من مختلف أنحاء العالم، الانتخابات الأميركية يوماً، هذا الاهتمام الذي نراه بانتخابات هذا العام. وعلى حد تعبير صحيفة "شيكاغو تريبيون" فقد أصبحت الانتخابات الأميركية لهذا العام، مادة الحوار الأكثر حيوية وإثارة للخلاف بين الجمهور، من مقاهي كابول الخربة الآيلة للسقوط، وحتى صالونات باريس الأنيقة الفاخرة. وبفعل انتشار الفضائيات وخدمة الإنترنت، فقد أصبح سائقو التاكسي في العاصمة الكوبية هافانا، وكذلك أرباب الأعمال الإلكترونية وخدمات الإنترنت في نيو دلهي، على قدر من المعرفة بمسار وتطورات الحملة الانتخابية الأميركية، لا تقل عن تلك التي يتمتع بها مواطنو ولايتي أوهايو وفلوريدا.
أما في فرنسا، فقد دخلت مفردات من الحملة الانتخابية الأميركية مثل "الولايات الترجيحية" و"تنشيط القاعدة الانتخابية" وغيرها، إلى القاموس الفرنسي، على نحو يثير دون شك، قلق ومخاوف اللغويين الفرنسيين. وهكذا تكون اللغة نفسها، عاملا إضافياً في تعزيز كراهية الولايات المتحدة في ذلك البلد. ووفقا لرأي "تيموثي جارتون آش"، من مدينة أوكسفورد، فإن ما يجري هناك في الولايات المتحدة، لا يمكن وصفه بأنه شأن أميركي داخلي، بقدر ما هو انتخابات دولية، ليس لبقية دول العالم صوت فيها. الفكرة نفسها ردد صداها مواطن كندي من مدينة "أوتاوا"، بعد أن مضى بها شوطاً أبعد إلى حد القول: لا يصوت الأميركيون نيابة عن كل مواطن في الكرة الأرضية فحسب، وإنما يصوتون نيابة حتى عن الأموات، والذين لم يولدوا بعد أيضاً! وبهذه المناسبة، فربما يثير هذا التعليق اهتمام الصحافة الجادة بحقيقة أن لتصويت أميركا عن الأموات، جذوراً عريقة في الحملات الانتخابية الأميركية، التي يعمد منظموها من حين إلى آخر، لاستخدام أسماء الموتى، من أجل الحصول على المزيد من الأصوات الانتخابية لمرشحيهم، بوسائل غير شرعية ولا قانونية.
ومن فرنسا يكتب الكاتب الذائع الصيت والاحترام، "جان دانييل" في المجلة التي يرأس تحريرها ( Le Nouvel Observateur) مشيراً إلى أنه وحتى إن كان العالم يفتقر إلى الصوت الانتخابي الفعلي في الانتخابات الأميركية الجارية، إلا أن جزءاً من هذا العالم، له مرشحه الأميركي، وهو المرشح الديمقراطي جون كيري. وبحسب "دانييل"، فإن كيري هو مرشح "الغرب" عموماً. وإن صح هذا القول، فإن الصوت الانتخابي الذي يحظى به "الغرب" لهو أكبر بما لا يقاس، من أصوات كل الناخبين الأميركيين، في المعركة الانتخابية الرئاسية لهذا العام، على وجه الخصوص! يذكر هنا أن نصف الأميركيين الذين يحق لهم التصويت في انتخابات عام 2000، لم يمارسوا ذلك الحق فعلياً. وبين الذين اقترعوا، كانت هناك فئة تقل عن 50 في المئة، أدلت بصوتها لصالح الرئيس بوش. ويعني هذا بلغة الأرقام، أن حوالي 50 مليون ناخب، من جملة المواطنين الأميركيين البالغ عددهم 285 مليون نسمة، هم الذين ساندوا جورج بوش في حملته الانتخابية الرئاسية لذلك العام. أضف إلى ذلك، أن الذين ساندوه انتخابياً، لم يكونوا هم من انتخبوه عملياً.
فبسبب التجاوزات التي حدثت في فرز وإحصاء الأصوات في ذلك العام، وما حدث مما يقارب الأزمة الدستورية في ولاية فلوريدا، كانت قد ثارت الشكوك حول عدد أصوات الناخبين في ولاية فلوريدا، الأمر الذي استدعى تدخل المحكمة العليا الأميركية لحسم النتيجة، فجاء حكمها لصالح جورج بوش. وللسبب عينه، فقد كان اتخاذ القرار حول من سيكون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في تلك الانتخابات، كان قراراً يعود إلى شخص واحد فحسب، هو صوت القاضي الذي رجح أغلبية خمسة أصوات على أربعة أصوات، عندما لجأت تلك المحكمة إلى الاقتراع على حكمها النهائي.
والنتيجة النهائية، هي تولي رئيس أميركي لدفة الحكم، لا يزال الكثيرون من الأميركيين، ينظرون بعين الريبة والشك إلى شرعيته. وفيما لو أحيلت نتائج الحملة الانتخابية لهذا العام 2004 إلى المحاكم هي الأخرى –كما هو مرجح بدرجة كبيرة- فسوف تثار الشكوك مجدداً، حول المرشح الفائز بين المتنافسين، وستجري مناهضتها. غير أن المناهضة هذه المرة، لن تقتصر على الأميركيين وحدهم.
هل هي انتخابات عالمية إذن؟ صحيح أن الأميركيين لا يعلمون ولا يمكنهم أن يعلموا، كل ما يحدث في كل ركن من أركان الكرة الأرضية. بل لا يشعر الأميركيون أصلا، بأنهم بحاجة إلى معرفة كل ما يجري حولهم. غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لدول العالم الأخرى. ذلك أن ما يحدث في واشنطن، يؤثر على كل فرد آخر، من سريلانكا إلى السويد. وكلما ازداد العالم أحادية قطبية، كلما قويت شوكة الولايات المتحدة، قياساً إلى بقية دول العالم الأخرى، ومن ثم تتعزز حقيقة ا