كتاب العمود بجريدة "النيويورك تايمز" غير مسموح لهم بتأييد أحد المرشحين للرئاسة. ولكنني أعتقد أن هذه الانتخابات في غاية الأهمية، وأنني مضطر بالتالي لخرق هذه اللوائح رغماً عني. وأرجو ألا يترتب على ذلك طردي من وظيفتي، ولكن لا مفر من أن أقول: أنا أؤيد جورج بوش لمنصب الرئيس. لا.. لا ليس جورج بوش رئيسنا الحالي، وإنما والده جورج هربرت ووكر بوش. فكلما عدت بذاكرتي إلى بوش الكبير، الرئيس الحادي والأربعين للولايات المتحدة، كلما وجدت فيه أشياء تدعو للإعجاب، وتبينت فيه سمات نحتاج إلى توافرها في رئيسنا القادم.
دعونا نبدأ بالسياسة الداخلية. كان جورج بوش الكبير هو الموحد الحقيقي- وليس المُفَرّق- والمؤمن الحقيقي بضرورة إجراء حوار سياسي أكثر رأفة ورقة. صحيح أنه كان يتعامل مع كونجرس ذي أغلبية ديمقراطية، وأنه كان مضطراً لأن يكون أكثر ميلا للتوفيق والمصالحة، إلا أن الأمور جاءت إليه بشكل طبيعي.
ففي عام 1990 وقف بوش الأب إلى جانب الديمقراطيين في الكونجرس عندما نادوا بفرض ضرائب جديدة، لأنه كان يدرك أن ذلك هو الإجراء السليم بالنسبة للاقتصاد الأميركي، على الرغم من أنه كان قد قطع على نفسه عهداً أمام الجميع بعدم فرض ضرائب جديدة. وعلى الرغم من أن هذه الزيادة الضريبية كانت هي السبب في الهزيمة التي مني بها في انتخابات تجديد ولايته كرئيس، إلا أنها كانت هي التي وضعت الأساس للزيادات الضريبية في عهد بيل كلينتون التي ساهمت- هي والضرائب الجديدة التي فرضها بوش الأب- في إبقاء معدل فوائد البنوك منخفضاً، وهو ما شكل حافزاً للنمو الرهيب في الاقتصاد الأميركي في تسعينيات القرن الماضي، وساعد البلاد على تكوين فائض نقدي ضخم.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، نجح بوش الأب في المحافظة على درجة من التوازن الصحي بين الواقعية والمثالية، وبين الأحادية والتعددية، وبين القوة والدبلوماسية، كما آمن بصدق أن المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، يمكن أن تكون عنصراً من عناصر مضاعفة القوة الأميركية على مستوى العالم. فبدلا من قيامه بتمريغ أنف ميخائيل جورباتشوف في التراب، فإنه قام بمعاملته باحترام، وكان ذلك عاملا ساعد على تسريع عملية سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وتحرير أوروبا الشرقية، وتوحيد ألمانيا، دونما حاجة لإطلاق رصاصة واحدة.
لقد اختار السيد بوش عام 1991 ألا يقوم بغزو بغداد. وسواء كان هذا الموقف صحيحاً أم لا، فإن الرجل شعر في ذلك الوقت، بأنه لو قام بذلك، فإنه سيفقد جزءاً كبيراً من التحالف الذي بناه من أجل إخراج صدام حسين من العراق. لقد كان من الواضح أن الرجل قد أدرك أن الولايات المتحدة لا يجب أبداً أن تقوم بغزو عاصمة عربية، دون تحالف يضم دولا عربية تعتبر مساندتها في هذا الجزء من العالم مهمة، مثل فرنسا ومصر وسوريا والسعودية.
لقد أدرك بوش الكبير أنه ليس في مصلحة إسرائيل أو مصلحة أميركا في الحقيقة، أن تقوم إسرائيل بتوسيع مستوطناتها في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان مؤتمر مدريد الذي تم عقده تحت إشرافه، هو المؤتمر الذي مهد الطريق لعملية السلام التي انطلقت في أوسلو، وكان هو أيضاً الذي مهد لإبرام معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية. وكان جورج بوش الكبير أيضاً هو الذي وضع الأساس لاتفاقية (النافتا) للتجارة الحرة، التي استكملت فيما بعد في عهد الرئيس بيل كلينتون.
باختصار أود أن أقول إن بوش الكبير قد فهم أهمية العمل في العالم، بشرط أن يكون عملا متسماً بالكفاءة ومسلحاً بالاستعدادات الكافية. ومع ذلك كانت نقطة ضعف الرجل هي دبلوماسيته العامة، حيث أخطأ عندما قام بمعاداة اليهود الأميركيين دون وجه حق وحاول تحدي حقهم في ممارسة الضغط بالنيابة عن إسرائيل. وعلاوة على ذلك كان بمقدور بوش الأب أن يتيح المزيد من الحرية للتعبير عن التحرير المدهش للإنسانية الذي تحقق بسقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وللتعبير عن الغضب الأميركي تجاه المذبحة التي ارتكبتها القوات الصينية في ميدان "تيان آن مين" في الصين، ولكنه لم يفعل.
ومن أخطاء بوش الكبير أيضاً أنه على الرغم من قيامه بفرض ضرائب جديدة، إلا أنه لم يحاول القيام بتبرير الأسباب التي دفعته لفرض تلك الضرائب. لذلك كله يمكن القول إن تفكير الرجل كان سليماً، وإن آلياته كانت صحيحة تماماً كذلك، ولكنه كان رجلا لا يجيد التعبير عن نفسه ولا يمتلك البلاغة الكافية لذلك، وهو ما كان يسبب إحباطاً للكثيرين.
مع كل ذلك، أقول إن تركته لازالت تمثل تركة جوهرية ومهمة للولايات المتحدة وأنها تركة ستدفع المؤرخين مع مضي الزمن، للنظر إلى الرجل باحترام وتوقير. ولذلك، فإن النصيحة التي أقدمها لكم- أعزائي القراء- مع اقتراب موعد هذه الانتخابات الحاسمة هي: عليكم التصويت للمرشح الذي يجسد الطبائع المميزة للرئيس جورج هربرت ووكر بوش الكبير. صوتوا للرجل الذي تعتقدون أنه يحمل الحس الغريزي السليم الذي يدفعه لرعاية الحلفاء، وإعادة التعاون بين الحزبين في شؤون السياسة الخارجية الأميركية مثل ذلك ال