هرعت جميع وسائل الإعلام ومراكز البحوث العربية والأجنبية لتقديم تصوراتها حول خلافة الرئيس عرفات بمجرد إذاعة أنباء مرضه. وحفلت معظم هذه التصورات بالتشاؤم. فتقدير معظم المراقبين هو أنه لا توجد في الوقت الحاضر شخصية سياسية يمكنها أن تحل محل عرفات دون مشاكل كبيرة في الحياة السياسية الفلسطينية. ولأنني لمست هذا التشاؤم في أسئلة وتحليلات الصحفيين والمراقبين الأجانب أدركني الإحساس بأنهم قد باتوا يفكرون مثلنا أو أننا أصبناهم بعدوى تقديس الرؤساء الأبديين. ويروج أتباع هؤلاء الرؤساء لأسطورة أنه لا يوجد لهم بديل. ويؤكد رئيس عربي أنه ظل يبحث لأكثر من عشرين عاما عن شخص واحد يصلح لأن يكون نائبه دون جدوى. فلا يوجد بديل أبدا للرؤساء الجالسين! ومع الوقت يشعر المواطنون وحتى العلماء بالقلق من الغياب المفاجىء لهؤلاء الرؤساء بعدما ثبت أن بعضهم يطاله القانون الالهي الذي يخضع له بقية البشر!
النظرية الخالدة للاستبداد هي أنه لا يوجد بديل. ولكن منطق تلك النظرية ينطوي بالضرورة على الاعتقاد بأن المستبد الحالي هو بديل أفضل من السابقين عليه، أو هذا هو ما تذيعه الدعاية الرسمية بصراحة أو بصورة مبطنة. ومن هذا المنظور ثمة دائما بديل. واذا شئنا استشارة الواقع فسوف نستنتج أنه لم توجد حالة واحدة لوقوع أزمة خلافة كبيرة في العالم العربي. فتمت الخلافة بقدر كبير من السلاسة في المغرب بفضل وضوح التقاليد والدستور. كما تمت بقدر معقول من السلاسة في الأردن. أما في النظم الجمهورية فقد انتقلت السلطة مرتين من عبد الناصر الى السادات ومن الأخير الى مبارك بدون مشاكل كبيرة رغم الغموض الشديد في النظام السياسي فيما يتعلق بهذه المسألة. كما تمت بسهولة شديدة في سوريا بعدما أعد الأب الظروف المناسبة لتولي الابن.
وليس من الصعب تصور أن تمضي عملية الخلافة السياسية فى فلسطين بدون مشاكل كبيرة أيضا، فتقوم "فتح" باختيار الرجل الثاني في التسلسل الرسمي وهو أبو مازن لقيادتها ومن ثم لقيادة منظمة التحرير ولمنصب الرئيس وقيامه هو بعد ذلك باختيار أبو علاء أو شخصية أخرى من الجيل نفسه رئيسا للوزراء. وقد يقوم بوضع واحد من القيادات الشابة المقبولة شعبيا في منصب رئيس الوزراء حتى يؤسس لعملية الانتقال الجيلي التي لم يسمح بها الرئيس عرفات أبدا. ويشكك البعض في هذه الفكرة نظرا لما تقول به استطلاعات الرأى التي جرت في الأرض المحتلة وجميعها يظهر افتقار الرجلين للشعبية. ويذكر أيضا عامل الانفلات الأمني في الأراضي المحتلة وتطور توازن نسبي بين مختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية وغير الرسمية فضلا عن طموح عدد من الشخصيات الأمنية لتولي مهام القيادة وما يبدو من استعداد بعضها لحسم الصراع بوسائل عسكرية.
والواقع أن الاعتبارات التي تقود الى أرجحية سيناريو الانتقال السلمي وفقا للقواعد الرسمية كثيرة وبعضها يمكن استنتاجه من خبرة الدول العربية الأخرى التي أخذ منها العرفاتيون (بكل أسف) بعض العناصر الجوهرية لنظامهم السياسي. فقد جرت العادة في النظم العربية وخاصة الجمهورية منها على ضمان حرمان الشخصيات التالية في التسلسل القيادي من الشعبية, حتى يبعد الرئيس خطر احتمال بروزهم كبدائل. ولكن ما أن يتولى هؤلاء قمة السلطة حتى يكونوا لأنفسهم شعبية كافية ولو بوسائل بيروقراطية. أما الاعتبار الأهم فهو أن الفرصة الوحيدة للتحالف البيروقراطي العسكري في استمرار السيطرة السياسية في الأرض المحتلة بعد عرفات تتمثل في التوحد خلف القيادة التالية في التسلسل والحيلولة دون تصدع الهيكلية الرسمية لمنظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي. ويضاف لذلك أن التيار الفتحاوي يظل هو الأوفر قوة وسوف يضطر للأخذ بالاختيار الرسمي لأنه الأسهل والأقل تعرضا للهزات والخلافات. كما أن اسرائيل وأميركا سوف تستخدمان كل أنواع الضغط لمنع وصول قيادات تنتمي للتيار الجهادي الى قمة السلطة الفلسطينية عن طريق الانتخابات. ومن المؤكد أن الدول العربية الرئيسية ستضغط في الاتجاه نفسه. وبغض النظر عن عوامل القبول الشخصي فإنها جميعا ستفضل ساسة راغبين وقادرين على العودة الى طاولة المفاوضات من طراز أبو مازن وأبو علاء.
لا تبدو خلافة عرفات إذن هي المشكلة الأكبر التى تواجه الشعب الفلسطيني كما يعتقد العرب والأجانب. فالمشاكل والقضايا الحقيقية والخطيرة كانت تتضخم في ظل قيادة عرفات التي كانت تفقد بسرعة قدرتها على السيطرة على الأحداث أو حتى تواصلها مع الواقع. وكان الشعور السائد هو أن مرحلة ما قد شارفت على الانتهاء وأن على المجتمع السياسي الفلسطيني أن يقرر لنفسه وبنفسه طبيعة المرحلة المقبلة أو تحديدا الاستراتيجية الأفضل لصياغة نضاله البطولي العظيم. ويمكننا أن نلاحظ نفس هذا الشعور طاغيا في سياقات عربية أخرى رغم اختلاف الظروف والأهداف والساحة السياسية وذلك لأن ما يجمعها هو قانون سياسي واحد. وهو إفلاس القيادات التي سيطرت طويلا على الدولة وتوقفها عن الهام المجتمع بأفكار وقيم ومعان واتجاهات جديدة