أوجه الشبه والتقارب بين منطقتي "كردفان" و"دارفور" كثيرة متعددة، فالجغرافيا تجمع بينهما، وتشكل منهما معاً ما يعرف بغرب السودان، والقبائل المشتركة هنا وهناك هي ذاتها، وكذلك هي العادات والطبائع في أغلب الحالات. في "كردفان" جماعات تعيش على الرعي وفيها من ارتبطوا بالأرض وفلاحتها، وهكذا الحال في "دارفور".
ولكل هذه الحقائق مجتمعة توقع الكثيرون أن ما جرى في "دارفور" قد يحدث في "كردفان"، وأن النار التي اشتعلت هناك قد تمتد إلى "كردفان"، وما طال الانتظار وخاب التوقع، ففي الأسبوع الماضي أعلنت جماعة سرية أنها تمثل أبناء وبنات "كردفان" وأنها تعلن الخروج على الحكومة المركزية وتطالب مثل "دارفور"، بأمرين أساسيين، هما المشاركة في السلطة واقتسام الثروة لا سيما تلك التي يجود بها إقليمهم ومنها البترول والصمغ العربي والماشية التي تصدّر خارج السودان وغيرها.
ويذهب هؤلاء خطوة جديدة ويقولون إن أكبر مدنهم وهي "الأبَيَّض" (بفتح الباء وتشديد الياء وكسرها) هي الأوْلى، والأحق بأن تكون عاصمة السودان وليس الخرطوم لأنها على الأقل تقع في منتصف السودان بأسره جغرافياً. أطلق هؤلاء اسماً على تنظيمهم هو "تهامة" ولعلهم بذلك يرمزون إلى قبائل منهم تقول إن نسبها العربي يرجع إلى منطقة تهامة في الجزيرة العربية.
إنها محنة جديدة تضاف إلى ما يواجهه السودان من محن تتواصل ولا تنحسر وتنمو ولا تعرف التراجع.
إن ظاهرة التفكك والتحلل الإقليمي التي وضحت الآن معالمها في السودان الشمالي يمكن، إذا لم يصل الكل إلى حلول مرضية، أن تؤدي إلى أن يتمزق هذا القطر (القارة) إلى عدد من الأقاليم أو الدويلات المتعددة التي تتشكل حسب الواقع الأثني أو القبلي أو ما إلى ذلك، وهكذا يختفي القطر الواحد الذي ظل على حاله القائم الآن لأكثر من قرنين من الزمان.
وإذا عدنا إلى تاريخ السودان الحديث وتابعنا واقعه السياسي منذ أن نال استقلاله في مطلع عام 1956 سنجد أنه لم يكن هناك وجود لهذه الظاهرة بحجمها ومستواها الحالي، كانت هناك مشكلات وصراعات لا شك ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من حدة وعنف وحمل للسلاح ضد الحكومة المركزية كما هو الحال الآن.
كانت الحرب وقفاً على الجنوب ولكنها امتدت الآن إلى الغرب، فبدأت بـ"دارفور" ثم وصلت إلى "كردفان"، وهناك حركات مماثلة تحمل السلاح وتتحدث باسم أهل الشرق ولسانهم. كان الحال في السابق كما ذكرنا أكثر تماسكاً ووحدة وتستوي في هذا الوضع الفترات الديمقراطية أو العسكرية، ولكن الظاهرة في حجمها وأبعادها الجديدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام العسكري الأيديولوجي (الإسلاموي) الذي حكم السودان منذ أكثر من 15 عاماً، إن الظاهرة تعني باختصار أن مجمل سياسات هذا النظام وممارساته ما كشف منها وما لم يكشف هي التي أسهمت بصورة أو بأخرى في إقرار هذا الواقع المتردي الجديد، والذي أحسب أنه لا سبيل لعلاجه جذرياً إلا إذا ذهب هذا النظام وجاء مكانه نظام ديمقراطي يمثل مصالح الناس بحق في شمال السودان وغربه وشرقه وجنوبه، وهناك الآن مجهودات لتحقيق هذا الهدف ولكن من العسير التكهن بنجاحها قريباً وقبل فوات الفرصة.