ما كان بريجنسكي مسؤول الأمن القومي أيام الرئيس كارتر، والباحث المعروف في الشؤون الاستراتيجية صديقاً للعرب بأي حال من الأحوال، وهو في كتابه الأخير قبل سنة:"الاختيار" (والذي تـُرجم إلى العربية ولقي انتشاراً واسعاً) ما أعطى العرب والشرق الأوسط من اهتماماته غير بضع صفحات، ضاعت وسط الحديث عن التحديات الاستراتيجية التي تواجهها الولايات المتحدة في الحقبة القادمة، والتي لا يرى بريجنسكي أن الإرهاب أهمها. وما دام الإرهاب لا أولوية له، فليست للعرب أولوية، فهم ليسوا قوة اقتصادية صاعدة مثل الصين، كما أنهم ليسوا قوة سياسية صاعدة مثل الاتحاد الأوروبي. ولذلك هناك أمران اثنان يستحق العرب من أجلهما الذكر: الموارد الهائلة للطاقة التي تكشفت عنها أرضهم، وهذا التنافر القائم عندهم بين الدين والدولة، والذي يتسبب في مشكلات كبرى للعالم كله، وعلى رأسه الولايات المتحدة. ما أردت من وراء هذا التقديم القيام باستعراض جديد لكتاب بريجنسكي، الذي لقي عروضاً متعددة، بل أردتُ الإشارة إلى تغير رأيه في أهمية العرب وأهمية الشرق الأوسط، وما يستدعيه ذلك من تغيير في سياسات الإدارة الأميركية المقبلة، سواء أذهب بوش أم بقي. قال بريجنسكي في مقالة له في "نيويورك تايمز": إذا أردنا أن نتجنب حرباً مع الإسلام (أي مع خمس سكان البشرية)، فيكون علينا أن نجد حلاً للأزمة والمأساة التي تسببنا بها في العراق، كما يكون علينا التعاون مع العالم لإيجاد حلٍ للمشكل الفلسطيني- الإسرائيلي. ثم يكون علينا أن نتوقف عن النصائح والضغوط بشأن الديمقراطية، وأن نعمل بالفعل على تمكين الجمهور من المشاركة في العملية السياسية. ويتابع الرجل: لقد قللت من شأن مشكلات الشرق الأوسط وتأثيراتها من قبل، بيد أن ما يحصل في العراق وفلسطين، وفلسطين بالذات، يبعث على القلق. فنحن لا نستطيع السير في ركاب شارون ولا حتى رابين. ولنا سياستنا المستقلة في العادة، ولا أحسب الأمر على هذا النحو الآن، بل ومنذ وصول بوش الابن إلى السلطة. انتهى كلام بريجنسكي.
المذكور هنا ليس مهماً لأن بريجنسكي صرح به، وهو من هو، بل لأنه يطلعنا على الرهانات العربية الكبرى في هذه الأيام. فهناك بالإضافة إلى ما ذكره بريجنسكي (المشكلات الثلاث) مشكلات النقص في النمو مقارنة ببقية أجزاء العالم. وهناك حالة العجز التي تعاني منها أكثر الأنظمة والأزمنة العربية. وقد جعلت أحداث 11 سبتمبر 2001 كثيراً من الأنظمة رهينة بيد الولايات المتحدة، إذ أصرت طوال سنتين على إسقاطها أو إسقاط بعضها إن لم تفعل كذا وكذا. وقد حققت الأنظمة ما تعتبره الولايات المتحدة ضرورياً لأمنها واستقرارها وازدهارها: التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وبأكثر مما تقدر وتستطيع. ولذلك تراجعت المطالب الأخرى مثل الديمقراطية والإصلاح وتفعيل المجتمع المدني. والمعروف أن آخر خطط ومشروعات الولايات المتحدة في هذا الصدد هي خطة الشرق الأوسط الأوسع، والتي تتخلى فيها عن أطروحة فرض الديمقراطية وتتطلع للعمل مع الحكومات وجماعات المجتمع المدني لإحلال الديمقراطية، واستحداث التنمية. ولأن الخطة كما هو معروف قد تمت الموافقة عليها بعد مفاوضات واسعة مع الاتحاد الأوروبي، فقد جاءت متضمنة جزءاً خاصاً بالشرق الأوسط، وبحل المشكلة الفلسطينية، لكنه ظل مشروطاً بالإصلاح وبالقضاء على الفساد (تنحية عرفات).
ولهذا فإن أكثر الأنظمة العربية، وبخلاف العالم كله تقريباً تريد عودة الرئيس بوش للبيت الأبيض أو استمراره فيه لأربع سنوات أخرى.
والواقع أنه لا أحد تقريباً من الدول الكبرى أو الوسطى يريد بقاء الرئيس بوش، كما لا يريد بقاءه بالذات رجالات المؤسسات الدولية. لا تريده دول الاتحاد الأوروبي، أو الدول/ المفاتيح فيها مثل ألمانيا وفرنسا وأسبانيا. والسبب مفهوم، فقد تفاقمت المشكلات وتلبد الأفق بين الأوروبيين والأميركان طوال السنوات الماضية لأسباب كثيرة من بينها التبادل التجاري، وكيفية التعامل مع منظمة التجارة العالمية. ومن بينها التجارة البينية، التي بدأت الولايات المتحدة تفرض رسوماً أو جمارك فيها. والتي لم يفضِ فكّ الركب فيها إلى شيء حتى الآن. وهناك مسألة التعامل مع الدول الصغيرة في الحلف، ضد الكبار، وبالذات فرنسا وألمانيا، وقد نفت الأطراف المعنية في الطرفين أن يكون شيء من ذلك قد حدث. لكن الرئيس شيراك يتحدث عن ذلك جهراً. ولا يخفي الفرنسيون انزعاجهم من الضغوط لصالح تركيا، فهم الذين سيتعايشون ويتعاونون مع الأتراك، ولابد أن يقتنع الأوروبيون أيضاً أن دخول الأتراك إلى السوق من مصلحتهم. وقد ملكت الولايات المتحدة، وتمتلك سياسات مستقلة تجاه شرق أوروبا والبلقان. وما تزال المشكلات هناك نائمة تحت الرماد، دون أن يتوصل الطرفان إلى رأيٍ مشترك في ما يتعلق بعدد كبير من المسائل. والمعروف أن الولايات المتحدة أدخلت دول شرق أوروبا الصغيرة إلى حلف الأطلسي وبعضها إلى الاتحاد الأوروبي، وهي تعتبر أنها تدين لها بالفضل. ولهذه الأسباب كلها، لا يريد الأوروبيون الكب