في الوقت الذي عمد فيه العديد من المسؤولين السابقين في إدارة بوش إلى تأليف وإصدار كتب يبثون فيها لواعجهم وضغائنهم مع اقتراب موعد انتخابات عام 2004 فإن قليلين منهم كانوا يعبرون عن موقف شخصي مثلما حدث مع "جوزيف ويلسون" مؤلف كتاب "سياسة الحقيقة" الذي نعرض له اليوم. و"ويلسون" الدبلوماسي العريق في الولايات المتحدة الأميركية من 1976 إلى 1998، أثناء حكم الديمقراطيين والجمهوريين، وجد نفسه فجأة يعمل ضمن إدارة لجأت عمداً إلى تسريب معلومات تكشف النقاب عن عمل زوجته "فاليري بليم" كعميلة سرية لوكالة الاستخبارات المركزية بعد وقت قصير من إبداء "ويلسون" لشكوكه بشأن ادعاءات بوش بأن العراق كان يحاول شراء اليورانيوم من النيجر.
وفي كتابه "سياسة الحقيقة" يشير "ويلسون" بأصابع الاتهام إلى "لويس ليبي" رئيس فريق مكتب "ديك تشيني" نائب الرئيس، وإلى "إليوت ابرامز" المستشار في وزارة الأمن القومي على الرغم من أنه لم يتقدم في حقيقة الأمر بدلائل دامغة تدين تورطهم في الكشف عن حقيقة نشاط زوجته. ومع ذلك فقد تمكن "ويلسون" من خلال سرده المحكم لتفاصيل حياته الشخصية ومجريات ما حدث من أن يرسم خريطة واضحة للتدخلات البشرية المغرضة في الأوضاع السياسية وبشكل تعجز عنه كبريات الصحف السيارة.
وكان كاتب العمود المعروف "روبرت نوفاك" هو أول من كشف صراحة عن اسم زوجة الدبلوماسي عندما كانت الشائعات تتضارب بشأن الجهة التي سربت هذه المعلومة. ويبدو أن غضب "ويلسون" تجاه الإدارة قد ازداد ضراوة على خلفية الدعم الذي كان قد قدمه للرئيس في انتخابات عام 2000 وبخاصة عندما عبر عن أمله في أن وجود حكومة مركزية من المحافظين سيدعم الموقف الأميركي في العالم. ولكن هذا السيناريو تبدد على الأقل في عقل "ويلسون" عندما أصبحت خطة غزو العراق أمراً لا مناص من تنفيذه. وشأنه شأن العديد من المحافظين التقليديين سارع "ويلسون" إلى نعي أيديولوجية "المحافظين الجدد" الذين طفقوا يرسمون السياسة الخارجية.
ولكن من خلال قصة حقيقية مدهشة تنطوي على كثير من الأسرار التي تتعلق بالهوية والخيانة نجح ويلسون في توصيل رسالة تتضمن سخطه ونقمته ولا تخلو من الازدراء والتحقير لمن يعتبرهم أعداءه. وعندما يوجه الاتهام إلى هذين المسؤولين يفترض ويلسون أنهما أكثر المشتبه فيهم فيما وصفه بـ"الحملة المنظمة" لتشويه سمعته. وقد اعتبر أن تسريب المعلومة جاء من قبيل الثأر والانتقام لما قدمه من دلائل على أن العراق لم يحاول أبداً شراء "يورانيوم" من النيجر بخلاف ما أكد عليه الرئيس بوش في خطابه عن "حالة الاتحاد" في عام 2003. ولم ينس "ويلسون" أن يوجه ضرباته إلى أولئك الذين يمكن أن يهددوا الأمن القومي للولايات المتحدة فقط لمجرد التمكن من إحراز نقاط سياسية.
لقد أتى "ويلسون" من جذور قديمة في "سان فرانسيسكو"، ولديه ارتباطات بالنادي "البوهيمي" و"نادي سان فرانسيسكو" كما أجبرنا على أن نتعرف على هذه الحقيقة. وسرعان ما دخل إلى أروقة الدبلوماسية وأصبح سفيراً لدى دول أفريقية صغيرة، ثم تقاعد وكوّن ثروة صغيرة أعانته على رعاية عائلته بمساعدة زوجته الثالثة التي كانت تعمل بشكل ظاهري في إحدى شركات الطاقة الدولية. وفي عام 2002 طلبت وكالة الاستخبارات المركزية من "ويلسون" السفر إلى أفريقيا للتحقق من تقارير تدعي أن العراق بصدد شراء "يورانيوم" من دولة النيجر. ولكن "ويلسون" لم يحصل على أي دلائل تدعم هذا الادعاء على الرغم من أن مسؤولي الإدارة وعلى رأسهم الرئيس بوش، كانوا يؤكدون أن صدام حسين يحاول شراء مواد تساعده على صنع القنابل النووية من أفريقيا.
وكان "ويلسون" قد بدأ في هدوء يخطر مراسلي الإعلام بضرورة توخي الحذر والتعمق في هذه الادعاءات. وفي نفس تلك الفترة تقريباً في مارس عام 2003 شرع المحافظون الجدد في البيت الأبيض بقيادة رئيس فريق مكتب "ديك تشيني" في "طبخ" عملية للنيل منه أو هكذا يدعي "ويلسون". وفي السادس من يوليو نشر مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" بعيد عودته من النيجر تحت عنوان "ما لم أجده في أفريقيا". وبدأ "ويلسون" يستمع من الصحفيين والمراسلين بأن الإدارة قد أعدت العدة للإيقاع به. وفي 14 يوليو ورد في عمود الصحفي المعروف روبرت نوفاك:"إن فاليري بليم عنصر سري ناشط في مجال أسلحة الدمار الشامل".
لقد غلب على الكتاب وبخاصة في الصفحات الثلاثمائة الأولى، أو نحو ذلك، طابع الجردة الحسابية لحياة موظف الدبلوماسية الذي خدم في بغداد في الأشهر التي سبقت وقوع حرب الخليج الأولى. وهذا الجزء من كتاب "سياسة الحقيقة" جدير بالقراءة ولا يخلو من التسلية، ولكن أيضاً من التطويل في سرد تفاصيل الحياة الدبلوماسية.
ويذكر أن "ويلسون" أثناء عملية درع الصحراء في 1990-1991 نجح في القيام بمبادرة في غاية الشجاعة والإقدام من أجل حماية نحو 800 مواطن أميركي كان قد تم احتجازهم في بغداد، وذكر أن الرئيس بوش وصفه حينها بـ"البطل الأميركي الحقيقي". أما الجزء الذي تعامل فيه الكاتب مع حادثة