من أهم نتائج العولمة هو انعدام الفصل بين ما يحدث داخل الدولة وبين سلوكها الخارجي، فطالما أن الدولة مخترقة، فإن سياستها الخارجية تصبح خط الدفاع الأول، وتقوم على أكبر قدر من المعلومات والتخطيط المسبق، ومن هنا أهمية وجود بنوك التفكير لتقليل حيز الارتجال.
وقد عانت بعض مظاهر السياسات الخارجية العربية من داء الارتجال، سواء في سنة 1967 في مواجهة إسرائيل، أو في حرب العراق مع إيران في سنة 1980 أو في غزو الكويت في سنة 1990. والتذكير بهذه الأحداث الماضية ليس لإعادة فتح الجراح ولكن الهدف المقصود هو استخلاص العبر من الماضي القريب لكي نتجنب تكرار الكوارث في الحاضر.
ومن دواعي القلق عندي ما يحدث حالياً حول سوريا ولبنان. وأهمية ما يحدث لا ترجع إلى أنه يخص سوريا ولبنان فقط - رغم أهمية هذين البلدين- ولكنه يعكس وضعاً عربياً ودولياً عاماً، ثم إننا لا زلنا في مستهل أزمة أهمل تخطيط التعامل معها منذ البداية، وقد يؤدي استمرار هذا الإهمال إلى كارثة.
وفي الواقع فإن لبنان، وسوريا والعلاقات بينهما تمثل في الضمير العربي حالة خاصة جداً لأنها مرآة للعلاقات العربية بحلوها ومرها. فـ"الصراع على سوريا" - كما عبّر عنه الصحفي البريطاني الأشهر باتريك سيل في كتابه الكلاسيكي بهذا العنوان منذ أربعين عاماً- يمثل الصراع على المنطقة العربية، أما لبنان، فالإدراك العام عنه أنه من ناحية "واحة الديمقراطية العربية" وسوق للأفكار حتى في أقوى عصور الديكتاتوريات العربية، ولكنه كان في نفس الوقت بؤرة أزمات كالمرآة المكبِّرة التي تبرز ما يدور حولها.
إن الوضع الاستراتيجي السوري صعب لأن سوريا محاطة بجيران يتربصون بها. هناك أولاً إسرائيل التي تحتل الجولان والتي أوضحت قدرتها على إحداث اغتيالات وتفجيرات حتى داخل دمشق نفسها. ثم هناك تركيا، التي رغم تحسن العلاقات حالياً، تتربص بسوريا بسبب مشكلة لواء الأسكندرونة الذي لم تتخلَّ سوريا عن المطالبة به، وبسبب بعض المشكلات الأخرى حول إيواء عناصر المعارضة التركية من أكراد أو غيرهم، وموضوع المياه... ثم هناك الوضع في العراق مع وجود قوات الاحتلال والذي جعل من الولايات المتحدة "جاراً" عسكرياً قوياً جاثماً على الحدود السورية. ثم في مواجهة كل هذه الأخطار، فإن سوريا - داخلياً- لا تزال مشغولة بالبحث عن صيغة ملائمة للعلاقة بين الحرس القديم والنخبة الجديدة. وهي - خارجياً- وحيدة وبمفردها. قد تود دول صديقة أو حتى حليفة مساعدتها ولكن ما باليد حيلة، فمصر أو السعودية مثلاً لها مشكلاتها وتحاول "تضبيط"علاقاتها مع واشنطن. وإيران نفسها مهددة، وحتى الصين وروسيا صاحبتا حق "الفيتو" في مجلس الأمن لم تستطيعا أكثر من الامتناع عن التصويت على القرار الذي يتوعد سوريا إذا لم تسحب قواتها في النهاية من لبنان. بينما فقدت دمشق صديقاً قوياً كان يناوئ الولايات المتحدة، أي فرنسا، التي في النهاية أصبحت خصماً يتزعم الحملة ضد سوريا بخصوص لبنان.
في مواجهة كل هذه الحصارات والأخطار، ما يأتي من دمشق وحلفائها هو تكتيك وليس استراتيجية، أي خطوات صغيرة لتقليل الحصار وليس خطة متكاملة لدرء الخطر وإمساك زمام المبادرة، بل على العكس أضيف إلى الوضع العسكري الصعب حصار دبلوماسي يزداد يوماً بعد يوم في قلب الأمم المتحدة نفسها. بل هناك تذبذبات في رد الفعل السوري: إدانة واعتراض على قرار مجلس الأمن فيما يخص الانتخابات الرئاسية اللبنانية، ثم خنوع لهذا القرار نفسه والقيام بـ"إعادة انتشار" للقوات السورية في لبنان. وغير ذلك من الأمثلة كثير.
ولعل القيادة السورية في دمشق توحد صفوفها وتنسق مواقفها لكي يكون الأسلوب التكتيكي جزءاً من الاستراتيجية وليس بديلاً عنها.