عبر سنين طويلة وفي الحاضر يموج الوطن العربي بالمعارضة السياسية غير الفاعلة، غير القادرة على الحفر في الصخر والحرث والزرع وجني الثمار. وهي تُذكٍّر بصخرة بطل الأسطورة اليونانية سيزيف والتي ما إن تقترب من القمة حتى تتدحرج من جديد إلى حيث بدأت رحلة صعودها.
في اعتقادي أن قلة الفاعلية وكثرة العبثية ترجعان إلى أربع نواقص تعيق نجاحها.
أولا: أن تعارض فهذا يعني أن تعترض طريق الذين تعارضهم، أن تصطدم بهم. أما أن تسير بجانبهم أو خلفهم فهذا يعني أن تفسح الطريق لهم حتى ولو كنت ترفع عقيرة الاحتجاج والشكوى. لكن المعارضة العربية لا تفهم الأمر على هذا النحو: فالمعارضة السياسية هي أبداً عيون مشدودة إلى الأرض، لا إلى فضاء الطريق الطويل. هي أبداً حبيسة المؤقت، مرعوبة بهاجس ضياع الفرص، مسكونة بقلة الحيلة والإبداع والصبر وبالتشرذم وبعقدة النقص أمام قوة وجبروت وكرنفالات الآخرين. وكنتيجة حتمية لكل ذلك تتآكل قوى المعارضة وتنقسم على نفسها بسبب الكر والفر الذي لا ينتهي ويبتعد الناس عنها. ذلك أنها لا تصل إلى إثارة إعجاب البطولة عند الناس فيساندونها ولا تحصل على مشاعر الشفقة تجاه الضحية فيدافعون عنها.
ثانياً: أن تعارض وضعاً أو قوة مجتمعية أو نظاماً فهذا يعني أن تعد الناس بمستقبل مخالف ومعاكس للحاضر. ولما كانت مشكلة المشاكل في المسرح السياسي العربي الرسمي هي غياب الشرعية الديمقراطية الحقيقية، فإن الإخفاق في حلّ هذا الإشكال داخل مؤسسات المعارضة يجعل قياداتها وقراراتها ومواقفها غير شرعية هي الأخرى. وإذا كنا نعيب على السلطات العربية كونها تتخذ قرارات مصيرية من مثل الحرب والسلام دون أن تستفتي المواطنين الذين سيحاربون ويضحُّون ويعانون فإن الأمر ينطبق على مؤسسات المجتمع المدني السياسية عندما تتخذ قرارات كبرى دون إشراك واستفتاء كل أعضائها وهم الذين سيخرجون ويحاربون ويضحُّون ويعانون. وكنتيجة فإن الحياة السياسية تذبل والمعارك تتوقف. ذلك أن الجنرالات لوحدهم لا يحاربون.
ثالثاً: إن القوى الرسمية التي تحكم تستقوي عادة بقوى رسمية أخرى إقليمية أو على مستوى العالم. وإذن فمنطقياً تحتاج قوى المعارضة المدنية إلى أن تستقوي هي الأخرى بقوى مدنية مماثلة على مستوى الإقليم أو العالم. لكن قسماً كبيراً من المعارضة العربية يفعل العكس. فهو يستقوي بأشكال من القوى الرسمية الأخرى التي تستعمله في عمليات الابتزاز السياسي والأمني، وبهذا تضيع فرصة اندماج المعارضة العربية في صفوف قوى المجتمع المدني العالمي التي تثبت الأيام أنها كبيرة في الميزان وموجودة في ساحات الكفاح الجماهيري.
رابعاً: إن المعارضة العربية تعيب على المؤسسات الرسمية أنها لا تستعين في اتخاذ قراراتها الكبرى بجماعات الفكر كما تفعل كثير من حكومات الدول الديمقراطية المتقدمة. وهي تعتبر أن من أهم أسباب الفوضى والارتجال والتناقضات في عملية اتخاذ القرارات الرسمية العربية عدم وجود مراكز وجماعات الفكر حول متخذي القرار والاستفادة منهم إن وجدوا بصورة بدائية سيِّئة.
لكن المعارضة العربية تقع في نفس الخطأ الفادح. فهي بدورها لم تنجح حتى اللحظة في تكوين جماعات فكر تستعين بهم بصورة دائمة ومنهجية قبل اتخاذ قراراتها الكبرى. وهي بذلك تمارس العشوائية التي تمارسها الأنظمة الرسمية وتكتفي بالأفعال المؤقتة التي لا تجدي نفعاً لمن ينشدون التغييرات المجتمعية الكبرى التي تدّعي المعارضة العربية أنها تعمل من أجلها.
عبر عقود طويلة لم تستطع المعارضة العربية تغيير الأوضاع السياسية إلا من خلال الانقلابات العسكرية أو مغامرات الانتهازيين. والنتيجة هي الوضع العربي المأساوي الذي نراه أمام أعيننا، بينما تحققت انتصارات سياسية كبرى لمعارضات في عديد من بلدان أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا وأوروبا. ومن هنا الحاجة إلى مراجعة عميقة متأنية تأخذ في الحسبان إخفاقات الماضي ووعود المستقبل.