يبدو أن حملة السيناتور كيري التي تعهدت بإعادة بث النشاط والحيوية في عروق الدبلوماسية الأميركية لم تعمد إلى إرباك الوصول إلى هذا الهدف عبر المجاملة والتلطف مع الدول الأجنبية. وكان "ريتشارد هولبروك" أحد أوفر زملائه حظوظاً في تقلد أحد المناصب المهمة في السياسة الخارجية حال فوز كيري بالرئاسة، قد تعود على استخدام القبضة الحديدية في منطقة البلقان أكثر من استخدامه للقفازات الناعمة أثناء حقبة التسعينيات. وفي الأسبوع الماضي وجه السيناتور "جون بايدن" أكبر منافسي "هولبروك" انتقادات حادة للرئيس الفرنسي "جاك شيراك" لأنه يمتلك شعوراً بالذات "بحجم هذه الغرفة" قبل أن يضيف أن الفرنسيين ظلوا يشكلون مصدراً مستمراً للآلام. أما بالنسبة لبقية الحلفاء الأوروبيين فقد قال بايدن:"طوال فترة الثلاثين عاماً الماضية التي عملت فيها كسيناتور لم نشهد إلا فيما ندر مبادرة تقدم بها المجتمع الأوروبي من أجل اتخاذ خطوة جدية في أي من المجالات". ويبدو أن "بايدن"، كمسؤول تنفيذي مستقبلي سيقدم لنا محاضرات في عدم جدوى التعامل مع أوروبا القديمة!
وقد سلطت تعليقات "بايدن" التي جاءت في اجتماع عام في مجلس العلاقات الخارجية بعض الضوء أيضاً على الموقف المركزي والحيوي لكيري في العراق. وكان كيري قد كرر مجدداً بأنه يرغب في "تحقيق النصر" في العراق، مما يعني أنه ينشد الاستقرار ونوعاً من أشكال الديمقراطية. ولكنه ذكر بالتزامن مع ذلك أيضاً أن (أ) الرئيس بوش قد ألحق أضراراً جسيمة بالمهمة العراق عبر فشله في إرسال أعداد كافية من القوات. وأشار أيضاً (ب) إلى أن إدارة كيري سوف تأمل في الشروع في عودة القوات إلى الوطن بعد ستة أشهر من تسلمها السلطة. ويبدو أنه يهدف من هذا التضارب والتناقض في تقديم وعد بأن القوات المتحالفة ستتحمل بعض العبء الأميركي. ولكن أكثر ما يثير التساؤل الذي يمكن توجيهه إلى كيري أو وزير خارجيته في المستقبل هو: ما هو السبيل إلى حث وتشجيع الحلفاء على المشاركة والقدوم إلى العراق؟
وتجيء إجابة "بايدن" في شكل قصة تحكى عن زعيم أوروبي أخطر "بايدن" بأنه يرغب في فوز السيناتور كيري، ولكن "بايدن" رد عليه قائلاً "توخّ الدقة فيما ترغب، فخلال فترة أسبوعين من انتخاب كيري سيطلب منك كأحد أصدقائه المزيد من المساعدة في العراق". ورد عليه الزعيم الأوروبي قائلاً "وماذا لو رفضنا الاستجابة له؟"، أجاب بايدن "في حال رفضكم للتجاوب بالمرة سأنصح كيري بضرورة ترك ومغادرة العراق".
على أن هذا الأمر ينطوي على نوع من العناد والمجازفة الذي قد يقود إلى الكارثة، وبدون شك فإن "بايدن" محق في أن الأوروبيين لديهم العديد من المصالح المهددة في العراق ولذا يتعين عليهم المساهمة بأكثر مما قدموا حتى الآن، ولكن الأمر أيضاً يشبه إلى حد ما القول إن الأميركيين لن يتمكنوا من تحمل برامج التزاماتهم المستحقة لذا يتوجب عليهم الإسراع في إصلاح هذه البرامج. وبلا شك فإن كلا الرأيين يتضمن الكثير من الحقيقة ولكن المنطق ليس بالضرورة دائماً أن تتبعه الأفعال والقرارات.
وأغلب الظن أن التحذير الذي ساقه "بايدن" قد وقع في آذان فرنسية صماء حيث إن سياسة شيراك الخارجية المعادية للأميركان يدعمها 76 في المئة من رجال دولته على الرغم من أن 36 في المئة فقط من مواطنيه يوافقون على سياساته بشكل عام. وكانت مجلة "الأيكونوميست" قد توجهت مؤخراً بسؤال إلى "ميشيل بارنييه" وزير الخارجية الفرنسي عما إذا كان الجنود الفرنسيون قد يذهبون إلى العراق في حال أصبح كيري رئيساً؟ ولكنه سارع بالرد ببساطة قائلاً "لا، على الإطلاق". ويبدو أن هنالك حلفاء آخرين بدوا أقل استعداداً لتقديم التنازلات، فرئيس الوزراء الأسباني الاشتراكي تمكن من رفع مستوى شعبيته من خلال سحب القوات الأسبانية من العراق. أما زعماء بريطانيا وبولندا وإيطاليا فقد باتوا يواجهون ضغوطاً هائلة بهدف الانسحاب أيضاً. وبلا شك فإنهم لن يقدموا على زيادة أعداد قواتهم هناك. وكما صرح أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الألمانية لوكالة "الأسوشيتدبرس" يوم الجمعة الماضي قائلاً "أقول للمرة الألف إننا لن نرسل أية قوات ألمانية إلى العراق".
وخلاصة القول، يبدو أن من غير المرجح أن تعمد إدارة كيري إلى ملاحقة الحلفاء للمساهمة بشكل كبير في جلب المزيد من القوات. إذن ماذا بشأن تدريب المزيد من الجنود العراقيين؟ هذا أمر بلا شك سيساعد كثيراً. ولكن لسوء الحظ فإن بناء قوات أمنية يستغرق وقتاً طويلاً: ففي الأسبوع الماضي قدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن الأمر يحتاج إلى خمس سنوات حتى يتم تدريب القوات العراقية إلى المستوى الذي يمكنها فيه تسلم مقاليد السلطة من الأميركان. وإلى جانب ذلك فإن الوحدات العراقية ليس من المرجح أبداً أن يكون بمقدورها القيام بمهام الرد العنيفة والقاسية على حركات العصيان المدني والمقاومة المسلحة. وإذا ما قمت بإرسال قوات من الشيعة لمهاجمة السنة فإنك إنما تعمل على تعميق الانقسامات الدينية الخطي