إن لغة الخطاب السياسي المتسمة بالمبالغة، والمستخدمة من قبل بعض الأصوات المحذرة من التهديد الذي يمثله الراديكاليون الإسلاميون، تشبه اللغة التي تستخدمها الأنظمة التوتاليتارية عادة من حيث إنها لا تصف واقعاً، وإنما تصف أشياء متخيلة ومخاوف، وتبالغ في ذلك الوصف. فتلك الأصوات تنظر إلى الإسلام على أنه "شر خالص" وأن العداء الإسلامي للغرب مبعثه "كراهية الحرية"، والحقد على "أسلوبنا في الحياة"، وإننا يجب أن نخوض معاركنا ضد الإسلام في أراضيه بدلا من أن نضطر لخوضها في شوارع لندن ونيويورك.
وهذه اللغة السياسية المتسمة بالمبالغة تساهم في تشكيل المفهوم الإسلامي لما يقوم به الغرب. وحربا أفغانستان والعراق والأحداث التي تجري في فلسطين تقدم جميعا أدلة- قد تبدو مقنعة من حيث الظاهر وإن كانت ليست كذلك في الحقيقة- على أن الحرب ضد حضارتهم قد بدأت بالفعل.
ويذكر في هذا السياق أن الأب الروحي للحركات الراديكالية الإسلامية المعاصرة هو المفكر المصري "سيد قطب" الذي يعتبر الملهم غير المباشر لأسامة بن لادن.
وكانت حركة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر عام 1928 كرد فعل على التيارات العلمانية المتنامية في المجتمع في ذلك الوقت، هي التي أثرت ابتداء على تفكير سيد قطب الداعي إلى الإحياء والإصلاح في العالم الإسلامي، وهي التي جعلته يتسم بالمزيد من المحافظة وينحو نحو النزعة القتالية.
ولكن الحركة الإصلاحية الرئيسية في العالم العربي في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، كانت حركة علمانية في طبيعتها، وهي حركة القومية العربية التي أدت إلى نشوء حزب البعث في سوريا ولبنان والعراق، وكانت تهدف إلى تأسيس أمة عربية واحدة.
وكانت أهم المحاولات الرامية لإقامة أمة عربية واحدة ذات طابع علماني، هي تلك التي قام بها الكولونيل ناصر في مصر في خمسينيات القرن الماضي والتي جاءت هي وحركة (الاشتراكيين العرب)، كرد فعل على إنشاء إسرائيل وهزيمة الجيوش العربية في حرب 1948. وهذه الحركات العلمانية فشلت، وخلفت وراءها أنظمة هي مزيج من أنظمة ديكتاتورية عسكرية، وأنظمة يتولى فيها الرئيس الحكم لمدى الحياة.
وفي نهاية المطاف، ظهرت أشكال من المقاومة المسلحة في الشرق الأوسط تقوم على أفكار تخريبية مستمدة في الأساس من الغرب (الحركات القومية في أوروبا القرن التاسع عشر، والشيوعية في القرن العشرين)، كما ظهرت أيضا تلك الفكرة التي كانت لا تزال حيه في الأذهان وهي العودة إلى الدين من أجل إحياء العصر الذهبي لأمة الإسلام.
والسبب الذي جعل حركة إحياء الجهاد الإسلامي تبدو ناجحة، هو ذلك الاهتمام المبالغ فيه الذي أضفاه الغرب عليها. فالهجوم الذي شنه تنظيم "القاعدة" على الولايات المتحدة، أدى إلى أربع سنوات من رد الفعل المحموم و"البارانويا" من قبل الحكومة الأميركية والذي أدى بدوره إلى دفع العالم دفعا كي يسير وراء الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي وجد فيه بعض الزعماء فرصة مناسبة للتخلص من العناصر الانفصالية أو التخريبية في بلدانهم، من خلال إعادة تعريف تلك العناصر ووسمها بـ"الإرهاب الدولي".
أما الحركة الإسلامية ذاتها فقد تطورت إلى حركة ذات قاعدة عقائدية تعتمد "الإرهاب" كوسيلة لتحقيق أهدافها، سرعان ما انتشرت في أوساط المسلمين المظلومين في أوروبا وأسيا وأفريقيا بل والولايات المتحدة أيضاً.
وكرد فعل على ذلك، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بغزو دولتين إسلاميتين (حتى الآن)، وهو الأمر الذي أدى إلى المزيد من الترويج للرسالة الإسلامية، وإلى تجنيد المزيد من المجاهدين، وما يحدث في أفغانستان والعراق اليوم ليس سوى دليل على ذلك.
وتعتبر حركة الإسلام الراديكالي حركة ناجحة من حيث الضرر المعنوي والسيكولوجي التي ألحقته بالولايات المتحدة وحلفائها. أما بالنسبة للعالم الإسلامي فإنها ستضيف فشلا جديدا... لماذا؟ لأنه لن تقوم في العالم الإسلامي خلافة جديدة حتى لو تحول ذلك العالم إلى حكم الشريعة على النمط "الطالباني"، هذه واحدة. ومن ناحية أخرى فإن السعي من أجل العودة للعصر الذهبي يمثل مهمة مستحيلة ليس للشعوب الإسلامية فقط، وإنما بالنسبة لغيرها من الشعوب كما حدث مع انتفاضة "تاي بينج" في القرن التاسع عشر في الصين الذي وعد بتقديم مزيج سحري من الحضارة الغربية والدين الشرقي ولكن انتفاضته فشلت في النهاية. ومثل تمرد "سيبوي" في الهند الذي وعد بإحياء أمجاد الإمبراطورية المغولية، والقضاء على الأجانب، قبل أن يأتي الغزو البريطاني ليسحق حركته.
وحتى أسامة بن لادن بدأ كراع أو ممول لحركة "طالبان"، ثم انتهى به المطاف الآن إلى مجرد رجل مطارد في مجاهل منطقة وزيرستان. صحيح أن أتباعه قد يكونون قادرين على تفجير الأميركيين في المنطقة الخضراء في بغداد، أو دعم وتعزيز القوى الوطنية العراقية التي قد تتمكن في النهاية من طرد أميركا وحلفائها خارج العراق، إلا أن هذه الحركة، والحركات الإسلامية بصفة عامة، هي حركات محكوم عليها بالموت في النهاية، كما