في الوقت الذي بدأت فيه الأشجار تكتسب اللون الذهبي والقرمزي، انهمك العلماء في جدل محتدم بشأن الأسباب التي دعت إلى ظهور هذه الألوان. ولكن هؤلاء العلماء يتفقون على شيء واحد ألا وهو أن لهذه الألوان أسباباً تقف خلف ظهورها. وهو أمر يمثل تحولاً رئيسياً في طريقة تفكيرهم، حيث ظلت الكتب المنهجية تدعي أن الألوان التي تكتسبها الأشجار في فصل الخريف إنما هي حصيلة ونتاج طبيعي لموت أوراق الأشجار. وكما يقول الدكتور "ديفيد ويلكينسون" خبير البيئة في جامعة "جون موريز" بـ"ليفربول" بأنجلترا "لطالما كنت أعتقد أن أوراق الخريف ليست سوى نفايات يجب التخلص منها. هذا ما تعلمناه كطلبة في المدارس".
ويذكر أنه خلال موسمي الربيع والصيف تكتسب الأوراق لونها الأخضر من مادة الكلوروفيل النسيجية الملونة التي تلعب دوراً رئيسياً في اجتذاب أشعة الشمس. ولكن الأوراق تحتوي أيضاً على مواد نسيجية أخرى تختفي ألوانها أثناء فترة النمو. وفي أثناء فصل الخريف تبدأ الأشجار في التخلص من مادة الكلوروفيل وتستعيد بعض المكونات القديمة في أنسجتها. وكانت الحكمة التقليدية تعتبر ألوان الخريف كنتاج طبيعي للأنسجة الملونة الأخرى التي كشف النقاب عنها في نهاية الأمر، أي أن أوراق الخريف هي بمثابة الشعر الأشيب للأوراق.
ولكن في السنوات الأخيرة أدرك العلماء أن ألوان الخريف لربما لعبت دوراً مهماً في حياة العديد من الأشجار. فالأوراق الصفراء تكتسب لونها من فئة من الأنسجة التلوينية تدعى "الكاروتيفويدز". وهنالك مجموعة من الجزيئيات والأنسجة اللونية الأكثر حساسية التي تنتج الألوان البرتقالية والحمراء. ولما كانت الأشجار تحتاج إلى الطاقة لتكوين هذه الجزيئيات وأنسجة "الكاروتيفويدز" إلا أنها لا تتمكن من استرداد هذه الطاقة لأن هذه المواد الملونة تبقى على الورقة حتى بعد موتها. وفي حال عدم تمكن هذه المواد من مساعدة الشجرة على البقاء فسوف تتحول أوراقها إلى مجرد نفايات. إضافة إلى ذلك فإن الأوراق تبدأ بالفعل في إنتاج كمية كبيرة من الأنسجة الجديدة بمجرد وصول موسم الخريف.
وكما يقول الدكتور "ديفيد لي" أستاذ علم الأحياء في جامعة فلوريدا الدولية "إن الألوان الحمراء لا تختفي إنما يتم إنتاجها في فصل الخريف".
على أن علماء الأحياء والمختصين بالشؤون السايكولوجية للنباتات قد تقدموا بتفسيرين مختلفين بشأن اختيار الطبيعة للانتشار الكبير لألوان الخريف على الرغم من التكلفة الكبيرة في إنتاج هذه الألوان. ويفترض الدكتور "ويليام هاميلتون" أحد علماء الأحياء في جامعة "أوكسفورد" أن ألوان الخريف الفاتحة تنطوي على رسالة تحذيرية للحشرات بأن تتركها لحالها. ولقد شهدت هذه الفكرة "الإشارة الخاصة بالأوراق" نمواً مبكراً في أعمال كان قد قام بتنفيذها دكتور "هاميلتون" على ريش الطيور. وقد افترض أن هذا الريش يعمل كوسيلة إعلانية ودعائية من قبل الأنثى للذكر مما يشير إلى أن هذا الريش يحتوي على جينات خاصة بالرغبة. وكلما قامت الإناث بهذا الاستعراض كلما نفش الذكور المزيد من ريشهم فيما يعتبر منافسة على الإناث. وفي حالة الأشجار يفترض الدكتور "هاميلتون" أن الرسالة المرئية أو البصرية يتم بعثها إلى الحشرات. ففي موسم الخريف تختار حشرات الأرقة والحشرات الأخرى الأشجار التي تضع عليها بيضها. وعندما يفقس البيض في الربيع المقبل تبدأ اليرقات في التغذي من الشجرة مما يؤدي إلى نتائج كارثية في بعض الأحيان. ويتنبأ الدكتور "هاميلتون" بأن الأشجار التي تتمتع بدفاعات قوية قد تصبح قادرة على تقديم المزيد من الحماية لنفسها بأن تترك الحشرات التي تضع بيضها تعلم ما الذي يمكن أن ينتظر هذا البيض من مشاكل، وهو يشير إلى أنه عبر إنتاج هذه الألوان الخريفية الخلابة فإن الأشجار إنما تعلن عن قدرتها على القتل والإهلاك وفي الوقت الذي تعمل فيه الحشرات على تفادي الأوراق الأكثر إشراقاً في لونها فإن اختيار الطبيعة سوف يفضل تلك الأشجار التي يمكن أن تكتسب الألوان الفاتحة الأكثر إشراقاً.
يقول "ماركو آرشيتي" أحد الطلاب السابقين لدكتور "هاميلتون" والذي يحاضر الآن في جامعة "فيربورغ" في سويسرا "لقد كانت فكرة جيدة". وكان الدكتور "هاميلتون" عمل مع "آرشيتي" على تحويل هذه الافتراضات إلى نوع من النموذج الرياضي. وقد أوضح هذا النموذج بأن الإشارات التحذيرية يمكن أن تؤدي بالطبع إلى إنتاج الأوراق الفاتحة على الأقل من الناحية النظرية. وهناك طالب آخر يدعى "سام براون" قام باختبار فرضية الإشارة التحذيرية للورقة مقابل البيانات الحقيقية الخاصة بالأشجار والحشرات. وهو يقول "إنها المحاولة الأولى لاستكشاف هذا الأمر". وقد أصبح الدكتور "براون" الآن أستاذاً للبيولوجيا في جامعة تكساس. وقد قام بدراسة 262 نوعاً من الأشجار وهو يتابع ألوان الأوراق وعدد أنواع الحشرات واليرقات المتخصصة في كل نوع من الأشجار.
وقد اكتشف الدكتور "براون" أن الأشجار التي لديها أوراق خريفية ألوانها أكثر إشراقاً تميل إلى أن تصبح ضحية لأكث