من المفاهيم الرئيسة التي يعتمدها الفكر الإصلاحي العربي المعاصر مفهوم "العقد الاجتماعي"، وهو قرين مفهوم "العلمانية"، ليس فقط لكونهما من المفاهيم المركزية التي استعارها هذا الأخير من المرجعية الأوروبية، بل أيضا لأنهما يرتبطان ببعضهما بعضاً ارتباطا بنيوياً إلى درجة يمكن معها القول إنهما وجهان لنفس العملة. ومع ذلك فإنه يمكن التمييز بين "وضع" (status, statut) كل منهما على مستوى الفكر العربي. ذلك أن مضمون "العلمانية" غائب تماماً في المرجعية التراثية العربية الإسلامية، بل هي ترفضه، بينما تقبل هذه المرجعية قرينه "العقد الاجتماعي" وتقدم له نظيراً وشبيهاً هو "عقد البيعة"، عندما يتعلق الأمر بمضمونه السياسي. أما مضمونه العام الذي يطرح مسألة "اجتماعية" الإنسان، فتشترك فيه المرجعيتان الأوروبية الحديثة والعربية التراثية، باعتباره إرثاً مشتركا من العصور القديمة.
بالفعل كانت هناك نظرية شائعة، سادت في العصور القديمة والوسطى، تقول إن ظهور الدولة كان أمرا "طبيعيا" اقتضاه كون الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده ولا أن يقوم بجميع حاجاته، وبالتالي لابد له من التعاون مع غيره. وبتنظيم هذا التعاون تطور الأمر إلى ما نسميه الدولة: إما انطلاقاً من الأسرة التي تطورت فأصبحت قبيلة تحالفت مع غيرها من القبائل والجماعات فأسست دولتها، كما كان شأن الأسر الحاكمة خلال القرون الوسطى، أو ابتداء من بروز بطل في ظروف معينة مكنته من تولي السلطة وتنظيم التعاون... إلخ.
يمكن وصف هذه النظرية بكونها نظرية محافظة: فهي إذ "تفسر" ظاهرة نشوء الدولة لا تفتح أية آفاق لتغيير الوضع القائم، بل تبرره وتجعل منه واقعاً اقتضته "طبيعة" الأمور. أما نظرية "العقد الاجتماعي" كما صيغت عصر النهضة الأوروبية فهي بالعكس من ذلك نظرية "ثورية"، بمعنى صيغت من أجل الإصلاح والتغيير. فمن جهة تقوم هذه النظرية على فرضية "حالة الطبيعة"، التي أدلى به بعض المفكرين الأوروبيين في بدايات العصر الحديث، ومؤداها أن البشر كانوا في مبتدأ أمرهم أحراراً لهم كافة الحقوق، لكل منهم الحق في كل شيء. ولكن، بما أن سعي كل واحد منهم إلى التمتع بجميع الحقوق كان لابد أن يؤدي إلى تنازع وتدافع واقتتال، فقد اهتدوا بعقولهم إلى طريقة لتنظيم هذه الحقوق بصورة تضمن الأمن والعدل، أعني: إبرام "عقد اجتماعي" يتنازلون بموجبه عن حقوقهم بهدف تنظيمها وحفظها واستردادها بصورة تمنع التنازع والتدافع والصراع.
واضح أن فكرة العقد الاجتماعي بهذا المعنى تطرح مسألة الحكم طرحاً أعم وأعمق وعلى مستويين: أصل الاجتماع وأصل الدولة، وهما مستويان من التعاقد مختلفان:
يتعلق الأمر في المستوى الأول بتنازل الأفراد، للمجموعة التي تتشكل منهم، عن الحقوق الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها في "الحالة الطبيعية"، في مقابل حقوق مدنية تضمنها لهم الهيئة العامة المجردة المسماة الدولة. أما على المستوى الثاني فالأمر يتعلق أساساً بتفسير شكل الحكومة: فالأفراد يتنازلون هنا لا للمجموع "المجرد"، بل لشخص واحد يقوم بمهام الرئاسة والحكم بما في ذلك الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعة.
وما دام الأمر يتعلق بفرضيات فغني عن البيان القول إنه من الممكن الجمع بين المستويين في نظرية واحدة تفسر في آن واحد أصل الاجتماع والدولة ومنشأ الحكومة وشكلها. كما أنه من الممكن تفسير الحكومة وشكلها داخل النظرية الأولى وحدها. وقد شهد الفكر الأوروبي هذه الأنماط جميعاً.
أما الفكر العربي الإسلامي فهو لم يعرف إلا النمط الثاني، أعني الذي يفسر منشأ الحكومة وشكلها وهو ما يسمى عندنا بـ"عقد البيعة". وبعبارة أخرى إن العقد السياسي الذي دار الكلام حوله في التراث العربي الإسلامي هو "عقد الإمامة" أو "البيعة". أما "العقد الاجتماعي" كنظرية تفسر أصل الاجتماع والدولة معا فشيء ظل غائبا عن مجال المفكَّر فيه لدى الذين خاضوا في مسألة "الإمامة" و"الخلافة"، وإن كان كثير من المؤلفين العرب يرددون مضمون النظرية القديمة التي وصفناها بكونها محافظة.
وخارج هذه النظريات كان هناك في العهد النبوي أنواع من "العقد" أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم، بعضها ينظم الاجتماع وبعضها ينظم الحكم: من ذلك عقد "بيعة العقبة" (الأولى والثانية) اللتين بايع فيهما ممثلو أهل يثرب (المدينة) الرسول عليه السلام رئيساً عليهم، فكانت الهجرة إليهم على أساس هذه البيعة الاختيارية المشروطة (شرط عليهم وشرطوا عليه)، وهذا عقد سياسي. وبمجرد وصول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أقام نظام "المؤاخاة"، آخى فيه بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الأنصار، مؤاخاة "على الحق والمساواة"، وهذا "عقد اجتماع". أما العقد المعروف بـ"الصحيفة" فهو يجمع بين الاثنين: فقد كتب النبي صله الله عليه وسلم، عند وصوله إلى المدينة مهاجرا، كتابا "بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة". كما "وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وش