قال الرئيس الأميركي جورج بوش الأسبوع الماضي إنه "سيقبل على مضض حكومة إسلامية أصولية في العراق إذا انتخبها الشعب العراقي في انتخابات حرة" وبالرغم مما يكتنف جملته من خطأ التدخل في الشؤون الداخلية لبلد مستقل، ولكن هل هناك تدخل أكثر من الاحتلال ذاته؟ فإن في جملة بوش غير الصحيحة سياسياً حكمة بالغة وتشخيصاً دقيقاً، ليت والده رئيس الولايات المتحدة وقتذاك، قال شيئاً مماثلاً عشية الانتخابات الجزائرية في ديسمبر 1991، والتزم وألزم غيره بنتيجتها، فلربما كان قد ساهم في إنقاذ العالم مما اتفق علي تسميته في الغرب "الإرهاب الإسلامي" وما هو بإسلامي وإنما إرهاب قلة غاضبة استسلمت لفكر متطرف يلغي العقل وفطرة الدين الحنيف بعدما سدت في وجههم أبواب التغيير ورحابة الأمل.
ما العلاقة بين الانتخابات الجزائرية الملغاة والإرهاب الذي نعيشه؟ ألم تكن العلاقة الوحيدة هي إفراز دورة من الإرهاب في الجزائر أهلكت أكثر من 100 ألف مواطن جزائري؟ أم أنها أكبر من ذلك؟ شخصياً أعتقد أن أثرها تجاوز الجزائر وكان لقرار إلغائها غير الحكيم تأثيره الهائل على حركات التطرف الإسلامي، فغذّاها وأعطاها الفرصة لزعم "شرعية" لا تستحقها.
كان المتطرفون يشاركون حركات الإسلام السياسي الوسطية السعي إلى حلم الدولة الإسلامية التي ستنشر العدل وتقيم حكم الله وتعيد للأمة هيبتها وكرامتها المستباحة، ولكنهم كانوا يحومون حول مفاهيم غريبة، يلوكهم الغضب والتعجل، كانوا أشبه ما يكونون بيسار اليسار المتطرف العنيف الذي كانت له صولة وجولة في الستينيات والسبعينيات، غير أن أصحابنا يكسون ثوريتهم بقشرة من الدين. كان الوسطيون يسمونهم مكفراتية أو جهاديين وتلطفاً "جروب بي" بينما أسموا أنفسهم جماعة الجهاد أو الجماعة الإسلامية أو جيش محمد، وتمسح جميعهم بالسلفية فكان بينهم جدل وتداخل وانقسامات أشبه ما تكون بالتجارب الكيمائية في معمل يمارسها نصف متعلم، والتي تنتهي عادة بنتيجة غير متوقعة كثيراً ما تكون "خلطة سيئة منتنة وخطرة" ولكن أصحابها يصرون على أنهم يحسنون صنعاً.
كانوا مقتنعين بأن التدرج في العمل السياسي، والتناصح مع أولياء الأمر، والتدافع السلمي المشروع إنما هو "حصاد مر" (صاغ أيمن الظواهري هذه النظرية في كتاب عنوانه "ستون عاماً من الحصاد المر" هاجم فيه الأخوان المسلمين)، أما الديمقراطية واستخدامها للوصول إلى سدة القرار فإنما هو ابتداع يرقى إلى الكفر، وإنه لا حل ولا سبيل إلا بالجهاد.
ولكن ربيع الديمقراطية والانفتاح غير المعتاد في عالمنا العربي والذي عاشته الجزائر لعامين قصيرين من 1989 إلى 1991 شكك في مقولاتهم، وعصف بنظرتهم السوداوية، فكمنوا تحت الأرض في بلدانهم أو فوقها في بيشاور وعواصم أوروبية عدة، ولكنهم كانوا دوماً على هامش الحركة يتحركون خلسة كالأشباح، وكان لهم وجود أيضا في بعض السجون العربية حيث كان السجانون يغذون تطرفهم بالسياط في النهار، أما في الليل فيختلون في جلسات يبحثون في بطون الكتب القديمة عما يؤيد نظرتهم القاتمة نحو المجتمع والحياة.
لم يهتم بهم العلماء بل كانوا يسخرون من فقههم وغرائب فتاويهم، وللأسف حتى الآن لم يبذل أي جهد علمي يذكر في تفكيك فكرهم لتطوير ترياق يحمي ضعاف العقول في المستقبل من أن يقعوا في شراكهم ذلك أن الجميع اعتقد بضآلة حجمهم وعدم أهميتهم، والحق أنهم كانوا ولا يزالون كذلك، ولكن بينما لا يلفت الانتباه عمل مئات الخبراء والمختصين في بناء مستشفى أو كلية إسلامية أو دار نشر – سوى الأجهزة الأمنية – فإن ثلاثة يفجرون قطاراً أو فندقاً يلفتون انتباه العالم كله. ويصبحون أكثر أهمية من جيش من الدعاة السائرين على الخطى الوسطية لمحمد عليه الصلاة والسلام.
عندما اختار التيار الإسلامي الوسطي في الجزائر مبدأ التدافع السلمي، والمشاركة في العملية الديمقراطية، جلس المتطرفة على الحافة يرقبون ما يجري، ويشككون في شرعيته، ولكن لم يرتفع لهم صوت ولم يلتفت إليهم أحد، إلا يوم حاولوا تعطيل العملية الديمقراطية بعملية إرهابية ضد مخفر شرطة على الحدود الجزائرية التونسية قتل فيها أربعة من رجال الأمن قبل أيام من بدء الانتخابات، ولكن زخم العملية كان أكبر منهم فجرت الجولة الأولى وفازت فيها الجبهة، ولم يعد لهم الاعتبار إلا عندما ألغى الجيش الانتخابات، وفتح المعتقلات الصحراوية للناشطين من أبناء الجبهة، فخرج هؤلاء فرحين شامتين: ألم نقل لكم؟ لن يسمح للإسلام بالوصول إلى السلطة عبر الديمقراطية الكافرة، ولا حل إلا بالجهاد، وكان أن وقعت الطامة الجزائرية.
اختفى الصوت الإسلامي المعتدل وخرج علينا التطرف في أبشع صوره، أصبحت الجزائر التي كانت واحة الديمقراطية في صحراء عربية بائسة إلى حقل تجارب لأشد أنواع التطرف تطرفاً، خرجت من لندن فتاوى غير مسبوقة، استحلت بها الحرمات وسفكت الدماء رخيصة، فهل يتحمل من ألغى الانتخابات الجزائرية ومن دعم ذلك من فرنسيين وأميركيين مسؤولية إخراج جني التطرف من قمقمه؟ أزعم ذلك. فبالرغم