الديمقراطية والانتخابات في العالمين العربي والإسلامي، يمران دون أن ينالا القدر الكافي من الأضواء والاهتمام والتحليل. فقد غطت الانتخابات الأميركية على كل ما عداها، بدءاً من الانتخابات الرئاسية الأفغانية التي تتجمع المؤشرات شيئاً فشيئاً على أنها ستفضي إلى فوز الرئيس المؤقت حامد كرزاي، خاصة بعد ما قيل من انسحاب متتالٍ لمنافسيه من المرشحين الآخرين. إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت في تونس يوم أمس الأحد ويتوقع أن يفوز فيها الرئيس زين العابدين بن علي بفترة رئاسية جديدة، وصولاً إلى الانتخابات العراقية المرتقبة أوائل العام المقبل.
غير أن انتخابات المنطقة وعوائقها، في كفة، ومآزق ومطبات الانتخابات العراقية في كفة أخرى. فهذه الانتخابات العراقية أثارت منذ الإعلان عنها قبل أشهر، كثيراً من الجدل، وكانت موضوعاً لأكثر التصريحات والبيانات تناقضاً، سواء في العراق نفسه أم في الخارج. خاصة بعد تهديد كثير من جماعات العنف المسلحة بأن هذه الانتخابات لن تنظم إلا على جثثها، وجثث الأبرياء أيضاً من العراقيين البسطاء. ومع بدء العد العكسي زمنياً، واقتراب الموعد، جاء الآن التهديد من جهات لم تكن في الحسبان، والأدهى أن التهديد هذه المرة ليس موجهاً إلى الخصوم بل إنه موجه للأتباع والمناصرين، ولم يعد مرتبطاً فقط بهذه الحياة الفانية، وإنما قفز التهديد رأساً إلى يوم الآخرة، مرة واحدة، ودون سابق إنذار.
فقد أفتى رجل الدين الشيعي البارز علي السيستاني بأن المشاركة في هذه الانتخابات المقررة واجبة شرعاً، وبأن الامتناع عن المشاركة فيها يقود صاحبه إلى نار جهنم وبئس المصير. وهي الفتوى التي أكدها فيما بعد رجال دين شيعة آخرون في خطب الجمعة بكربلاء. وقد أفتى في المقابل، أحد علماء السنة، بأن المشاركة في تلك الانتخابات إثم من الناحية الشرعية، لأنها ستجرى في ظل الاحتلال. والملفت في هذه الفتاوى، والفتاوى المضادة، هو تنافيها مع روح الديمقراطية من حيث الأساس. فالديمقراطية تقتضي أن ممارسة التصويت أو الاقتراع هي خيار شخصي يرتبط بحرية المواطن المقترع. فإن شاء مارس حقه الشرعي في التصويت وإن شاء امتنع، أو صوت بأوراق بيضاء محايدة لا تخص أياً من المرشحين أو الأحزاب المشتركة في السباق الانتخابي. وهكذا فإن المسألة تبقى في كل الأحوال خياراً شخصياً، دنيوياً، ولا مبرر لإسقاط تأويلات أخروية أو دينية عليها.
إن إسقاط إحالات وتبريرات دينية على مسألة المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات العراقية المقبلة ليس من شأنه فقط أن يضع عوائق إضافية جديدة على طريقها، وإنما يقدم أيضاً دليلاً آخر على أن مشكلتنا في العالمين العربي والإسلامي مع الديمقراطية هي مشكلة ذات أبعاد ثقافية. إذ من المفهوم أن مثل هذه الفتاوى جاءت كجزء من الحملة المحمومة للحض على موقف معين، ولجعل الطائفة التي يوجه إليها الخطاب تتبنى موقفاً جماعياً إزاء الانتخابات في يناير المقبل. لكن الحملات الانتخابية، وسحب جموع الناخبين إلى صناديق الاقتراع أمران يمكن أن يتما دون إقحام للخلفيات الطائفية أو المذهبية، لأن الأحزاب، وليس الطوائف، هي التجمع الوحيد الذي يفترض أن يتم الاعتراف به كطرف مؤهل لتمثيل عدد كبير أو صغير من الأفراد، وجعلهم يجمعون على برنامج واحد أو يتبنون موقفاً موحداً إزاء قضية من القضايا، ويدخلون معاً في العملية الديمقراطية، من خلال المشاركة في الانتخابات.