بناء المؤسسات عملية صعبة ومعقدة ومستمرة ولكنها بالمقابل الضمان الأمثل للتطور الحديث للدولة، وبالمقابل نجد أن الأفراد، وبرغم أنهم قد يلعبون دوراً مهماً في التطور السياسي للدول والمجتمعات، إلا أن هيمنتهم على النظم السياسية لا تتفق مع العقلانية والاستمرارية المطلوبة في النظم السياسية، ففي العديد من الحالات نجد أن الشخصيات القيادية والتاريخية والتي تؤثر إيجاباً في مسيرة الأمم والشعوب تتبعها شخصيات أخرى باهتة لا تتمتع بنفس المؤهلات القيادية وبالخبرة والحنكة السياسية للشخصيات القيادية المؤثرة، والاستنتاج الجلي في هذه الحالة أن تطور الشعوب عاجلاً أم آجلاً لا بد من أن يرتبط بعقلانية المؤسسة وبإجماعها وثباتها.
وبناء المؤسسات لا يتم بين ليلة وضحاها كما أنه لا يتأسس بمراسيم أو فرمانات، فمثل هذه الترتيبات السطحية تخلق مؤسسات سطحية عبارة عن "ديكور" من ديكورات الدول الناشئة والحديثة، وفي هذا الصدد نشير إلى العديد من الأحزاب الحكومية العربية والتي سرعان ما اضمحلت بمجرد رفع الغطاء الرسمي عنها أو تغيّر سياسة الحكومة أو رحيل الرئيس المؤسس لهذه الأحزاب.
ولعل المقارنة بين الأحزاب الشعبية كالوفد والإيديولوجية كالإخوان وبين الأحزاب الرسمية الناصرية والساداتية خير دليل لما نقول، ونضيف للأحزاب العديد من التجارب المتواضعة في منطقتنا لخلق مجالس استشارية وأخرى مكبلة، فبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على مثل هذه التجارب نجد أن المحصلة النهائية متواضعة وأننا وبرغم استثمار الوقت والجهد أمام هياكل باهتة لا تضيف للعملية السياسية مصداقية أو فاعلية.
ولعل البعض يتساءل إن كانت أرضنا في الخليج العربي والعالم العربي جدباء وغير صالحة لبناء المؤسسات، أو أن مجتمعاتنا بفعل جذورها القبلية لا تتوافق تقاليدها مع مثل هذه الأطر، والتي باتت من ضرورات الحداثة والتحديث السياسي، ومثل هذا الرأي يحمله بعض المعلقين الغربيين يعبرون عنه بين السطور ويجدون صعوبة في تصور قيام مؤسسات سياسية مستقرة وفاعلة في دول الخليج العربي، ولعلهم يستثنون تلك المؤسسات التي ترتبط بالشق التنفيذي للسلطة السياسية، ومثل هذه المقاربة ترى أن دول الخليج العربية، على سبيل المثال.
وعلى رغم أنها قادرة على محاكاة نماذج معينة من التحديث والتنمية والمرتبطة بمظاهر التنمية من نهضة عمرانية واسعة وتطور اجتماعي معقول، ولكنها، وبالمقابل، لن تتمكن من أن تزاوج هذا التقدم والتغير بجوهر التحديث والتنمية ألا وهو النظام القائم على المؤسسات بكل ما يعنيه ذلك من مضمون. ولا أضيف جديداً حين أشير إلى أن مثل هذا الرأي فيه الكثير من التعالي بل ويقترب اقتراباً شديداً من العنصرية، ولكن، وبالمقابل لابد من الإقرار بأن بطء الحركة من قبلنا يعطي لمثل هذا الطرح الذخيرة المطلوبة ويسمح له في العديد من الدوائر بأن يصبح وكأنه حقائق ومسلمات.
والخلاصة أن تجربة عالمنا العربي وخليجنا العربي تقول إن النظام السياسي والذي يعتمد على المؤسسات هو النظام السياسي المؤهل للتعامل مع تحديات هذا القرن، وبناء هذه المؤسسات يجب أن يتم من خلال مراجعة مستمرة للكفاءة السياسية للهياكل الموجودة والحكم على تجربتها حكماً علمياً بعيداً عن العاطفة وبعيداً عن التخوف من خوض غمار تجارب جديدة تتطلبها المرحلة القادمة، وفي سعينا هذا علينا بالتدرج من خلال خطة واضحة المعالم ندرك من خلالها ضرورة أن ندعم مسيرة التحديث والتنمية من خلال نظم مؤسسية راسخة الجذور تقينا رياح التغيير القادمة.