طبيعي أن تختلف وجهات نظر المثقفين والكتاب والمفكرين العرب في شأن جدوى المشاركة العربية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب. وقد أظهرت هذا الاختلاف المقالات والتحقيقات والتحليلات التي حفلت بها الصحف والمجلات العربية منذ انتهاء المعرض حتى الآن. والمتابع لهذه المواد الكثيرة يكتشف بلا عناء أن السبب في اختلاف الرأي هو في الواقع اختلاف الرؤية والطموح. فكل من كان في ظنه أن هذه المشاركة العربية، في أكبر تجمع ثقافي عالمي، يجب أن تحقق هدفاً معيناً، ثم لم يجدها حققته، أو لم يجدها حققته بالقدر الذي تمناه، انتقد المشاركة في المعرض من الأساس، أو انتقد بعض ما رآه سلبياً من التصرفات والمواقف. ولأن الإنسان الصادق مع نفسه لا يستطيع أن يقدم أكثر من شهادته هو، على ما رآه شخصياً أو تحقق منه، فإن التعميم الذي لاحظته في بعض المتابعات للمعرض، ودَوْر الثقافة العربية فيه، تعميم غير صحيح، وغير عادل أيضاً. غير صحيح لأن كثيراً من النجاحات تم إنجازها، وكثيراً من الجهد الصادق المخلص بذل للوصول إلى ذلك. والحفل الذي أقامه اتحاد الناشرين العرب في نهاية المعرض، وحضره المسؤولون الألمان، كان تعبيراً حقيقياً عن شعور هؤلاء الذين يديرون المعرض كل سنة بنجاح عربي حقيقي صنعه الحضور الثقافي كما صنعه الحضور المهني (أعني حضور دور النشر) العربي.
ولو أن الحضور العربي لم يكن مؤثراً ولا مهماً ما كانت القوى الصهيونية في أوروبا قد اهتمت به. والحاصل أن الاهتمام الصهيوني بالحضور العربي كان أكثر من المتوقع. لقد بدأ هذا الاهتمام بإقامة دعويين قضائيتين أمام المحاكم الألمانية إحداهما طلب المدعون فيها منع تنفيذ الاتفاق الذي أبرم بين إدارة المعرض وبين الجامعة العربية لاستضافة الثقافة العربية في المعرض وأسست هذه الدعوى على أسانيد أهمها أن الثقافة العربية تعادي السامية(!) وأن نظم الحكم العربية شمولية لا تسمح بحرية التعبير وحرية النقد وحرية الإبداع. واستخدمت في تأييد ذلك وقائع صحيحة جرى استعمالها خارج سياقها، وقد جمّعت هذه الوقائع من دول عربية عدة ليبدو أن الأمر يشمل العالم العربي كله. وكان مصير هذه الدعوى هو الرفض، ونفذ الاتفاق.
الدعوى الثانية رفعتها بعض المنظمات الصهيونية بطلب استبعاد كتب معينة من المعرض، وضيوف معينين من الحضور إلى ألمانيا والمشاركة في نشاطات المعرض الثقافية بناءً على ما زعمه المدَّعون من أن هؤلاء المثقفين العرب إما مؤيدون لـ"الإرهاب"، وإما معادون لإسرائيل وإما معادون للسامية، وقد رفضت المحاكم الألمانية هذه الدعوى أيضاً ولم يمنع أي كتاب عربي من العرض، ولم يمنع أي كاتب أو مثقف أو مشارك عربي من الدخول إلى ألمانيا للمشاركة في المعرض.
على أبواب المعرض جميعاً (أحد عشر باباً) كان للصهيونية وجود يتمثل في بضعة شباب يحملون منشورات ضد العرب ويوزعونها على رواد المعرض، وبعد اليوم الأول أعدت لهم جهة ما (قد تكون البلدية أو الشرطة) ما يشبه المظلة وتحتها مائدة ليتجمعوا حولها ويديروا حركة المناهضة للثقافة العربية منها، وعندئذ أضيف إلى توزيع المنشورات إلقاء خطب وكلمات ـ الذي سمعته كان بالألمانية ـ فلم أفهمه، لكن أحد الوقوف قال لي إنه يهاجم الحضور العربي ويصفه بأنه كحضور الجراد يغطي الأرض ويأكل كل ما فيها من ثمرات ومحاصيل(!) وأخبرني أنه يتعجب لماذا يقيم العرب كل هذه الندوات الفكرية والثقافية إن لم يكن هدفهم هو الدعاية لأنفسهم(!) ودعك من تهافت هذا المنطق فإنه لم يكن هو الذي أذهب تأثير تلك الحملة الصهيونية سدىً، إنما الذي صنع ذلك كان أن الصهاينة استندوا في كل تفصيلات حملتهم العدائية إلى زعم أن العرب هم الوجه الآخر للنازية، وأن بعض الزعماء العرب الذين أيدوا "هتلر" أيدوه لأنهم نازيون أصلاً(!) وكان هذا كافياً لانصراف الألمان بوجه خاص، والأوروبيين بوجه عام، عن هذه الدعاية الصهيونية لأن النازية والاتهام بها أصبحت في أوروبا كالاسطوانة المشروخة تزعج السامعين لكنها لا تحرك فيهم أية مشاعر حقيقية.
أظن أن إخواننا الذين يرون المشاركة العربية شراً كلها، أو خسارة محضة قد يعيدون النظر في هذا الرأي إذا وقفوا على حجم هذه الحملة الصهيونية التي لم تكن لتنظم وتنفذ لو أن التقويم الصهيوني لمشاركتنا العربية في فرانكفورت كان سلبياً على نحو ما يراه بعضنا.
من المسائل المهمة في تقويم المشاركة العربية، ما أشرت إليه في المقالة المنشورة في الأسبوع الماضي من تنوع صور تلك المشاركة وتعدد أماكنها واختلاف مجالاتها. فقد كانت هناك محاضرات وندوات فكرية سياسية ودينية، وكانت هناك لقاءات للشعراء ولكتاب القصة وللفنانين المسرحيين، وكانت هناك حفلات موسيقية وعروض سينمائية، ومعارض فنية... ولكل من هذه المجالات محبون ورواد قد لا تهمهم بالضرورة مجالات أخرى، وكثير من هذه النشاطات كان يتم بالتوازي لأن أيام المعرض لا تتسع لإقامة كل نشاط على حدة في وقت مستقل، ولذلك فإن أكثر الذين شاركوا في المعرض رأى جانباً أو جانبين من هذه الأ