في مثل هذه الأيام المباركة وقف رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، خطيباً ليقول للناس: أيها الناس قد أطل عليكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة وشهر يزداد فيه رزق المؤمن. من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
هكذا لخص لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فضائل شهر رمضان، ووضع لنا من خلال هذه الكلمات الموجزة الأساس السليم والصحيح والواضح الذي نتبعه ونحن نعيش هذه الأيام المباركة التي قال عنها الله في كتابه الكريم في سورة البقرة "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". وقال عنها في آية أخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". وبذلك تجتمع للمسلم في هذا الشهر نعمتان من أكبر النعم، نعمة الصوم ونعمة القرآن، حيث تلتقي أهداف الصوم مع أهداف القرآن لتشكل في مضمونها هدفاً واحداً وفق تنظيم دقيق وتآلف وتفاعل روحي وإيماني عميق يهدف إلى تربية روح وعقل وقلب الإنسان المسلم وفق أهداف الإسلام الكبيرة وتفعيل جوهر "آلية" السلوك والعمل الإسلامي عنده والارتقاء بها إلى مستوى التفاعل الإيماني والروحي المطلوب. في هذا الشهر الكريم الذي يلتقي المسلمون فيه في كل بقاع الأرض على مائدة واحدة وهدف واحد وصف واحد وتوقيت واحد، يبدأ منذ أن ينطلق صوت الأذان معلناً اجتماع المسلمين حول هدف الإسلام الأكبر وهو عبادة الخالق جل جلاله وتوحدهم تحت راية هذا الهدف. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخص رمضان من الطاعات بما لا يعمله في غيره ويكثر من قراءة القرآن. وكان السلف الصالح يعتبرون هذا الشهر فرصة العمر للتسابق إلى الله في ميدان العمل الصالح، يخشعون ويبكون ويتدبرون آيات الله وهم يتلون كتاب الله ويظلون طوال الشهر في قيام وركوع وخشوع. كان الإمام أبو حنيفة إذا دخل رمضان تفرغ لقراءة القرآن، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان الجنيد يعتبر الصوم في حياته نظام حياة، كانوا يسمونه شهر الإقبال على الخالق، وبلغ الأمر أن أصبحت حركة حياتهم قرآناً يمشى على الأرض. لقد حقق المسلمون الأوائل بهذا السلوك القرآني أكبر انتصاراتهم في هذا الشهر وهم صيام، حدث ذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة وفي 17 من رمضان عندما وقعت غزوة بدر الكبرى التي سماها الله في كتابه بـ"يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" وارتفعت بعدها راية الإيمان عالية، وحدث ذلك في السنة الثامنة من الهجرة في الحادي والعشرين من شهر رمضان في فتح مكة المكرمة ودخل الناس في دين الإسلام أفواجاً وسقطت الأصنام والأوثان والعقائد الفاسدة على الأرض وارتفع صوت المؤذن لأول مرة. لقد أراد الله أن يصبح هذا الشهر المبارك فرصة عظيمة لإيقاظ المسلمين من غفوتهم وإعادة تذكيرهم وتنبيههم إلى حقيقة وضعهم الحضاري المأزوم حتى يفتحوا عيونهم على جوانب الخلل وجوانب الإهمال في حياتهم وسلوكهم الإسلامي الذي غفلوا عنه طويلاً والذي جعلهم يعيشون حالة من الضعف والانهزام والانكسار أمام تحديات الواقع وأمام تقدم الأمم الأخرى، وهو في الحقيقة دورة سنوية تجعل الإنسان المسلم يتفحص من خلالها أخطاءه ويعيد حساباته ويراجع مكونات نفسه من الداخل ووظائف هذه المكونات الروحية ويشحنها بطاقة الإيمان المطلوبة. إننا في حقيقة الأمر في حاجة ماسة إلى إعادة هذه الروح القرآنية إلى الأمة، حتى نؤكد من خلالها حالة انتصارها في جميع مجالات الحياة، وخاصة أن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى من يعيد لها مثل هذه الروح.