كما يتضح تلقائياً من عنوانه، يهتم كتاب "الديمقراطية داخل الأحزاب في البلدان العربية"، بإلقاء الضوء على طبيعة الممارسة وصناعة القرار وعلاقة المستويات الحزبية ببعضها بعضاً، في هذه الأحزاب. ويشمل ذلك الاهتمام أغلب نماذج الحياة الحزبية التي عرفتها البلاد العربية منذ أواسط القرن الماضي؛ ويتناول في ثلاث عشرة دراسة، أعدها باحثون متخصصون، حول الأحزاب في مصر والمغرب والأردن والجزائر واليمن وسوريا والعراق، تاريخ المؤسسات الحزبية ومعوقات الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب وعلاقتها بتجارب الحكم القائمة. وفي دراسة نقدية حول "إشكالية الممارسة الديمقراطية داخل حركة القوميين العرب" التي تأسست في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، يتضح أن الحركة أجلت مسألة الديمقراطية السياسية منذ نشأتها، لاعتقادها أن الأولوية في المرحلة الأولى هي لتحقيق الوحدة القومية والتحرر من الاستعمار واسترداد فلسطين. لكن موقف الحركة من الديمقراطية عرف تقلباً واضحاً، ففي الخمسينيات قبلت التضحية بالديمقراطية السورية النسبية من أجل الوحدة مع مصر، ثم راجعت ذلك الموقف بعد الانفصال، لكنها عادت أيضا إلى اعتبار التعددية السياسية سبباً في إفشال قيام الوحدة الثلاثية عام 1963، ثم طالبت بعد انتقالها إلى أقصى اليسار إثر هزيمة يونيو 1967، بتوسيع الديمقراطية لتمكين الطبقة العاملة وحلفائها من التجمع في تنظيم ثوري. لكن "حركة القوميين العرب" كانت بشكل عام تجد مبرر وجودها في "العمل من أجل الثورة القادمة وليس الانتخابات المقبلة"، ومن ثم لم يكن في وارد القول إنها ديمقراطية من الداخل أو تستند إلى نظام الاقتراع في اختيار القيادات واتخاذ القرارات أو تبني البرامج، بل تدل الانقسامات الداخلية التي أنهت وجودها لاحقا، على أنها تفتقر كليا إلى آليات الديمقراطية والتداول الحر.
وهي الظاهرة التي تبدو على نحو أكثر حدة "في آلية الصراع داخل الحزب الشيوعي السوري"، حيث تتطرق إحدى الدراسات إلى خلافات تنظيمية عميقة داخل ذلك الحزب، وتوضح تطور الصراع وبعض الأشكال التي أخذها، لتخلص إلى أن "المركزية الديمقراطية" التي ميزت تجربة "الحزب الشيوعي السوري"، مثلت أداة مثالية لإبقاء الأجواء الحزبية ضحلة وفقيرة وبعيدة عن الحياة، كما هيأت التربة الملائمة لبقاء القيادة الهرمة ولتكريس الجمود الذي لا يحول دون التناحر الداخلي!
أما "الديمقراطية في الحزب الثوري – الجماهيري" في الوطن العربي، فتمثل تجربة اليمن الجنوبي نموذجها الصارم، حيث قامت قبائله الماركسية بتصفية بعضها بعضا، على نحو درامي يذكر بالمأساة التي صورتها رواية "الإخوة الأعداء". ويمثل حزب "البعث" العراقي هو أيضا حالة لمثال مشابه، حيث تصارعت قياداته وانتهت صراعاتها بأعراس للدم ليس لها مثيل. وفي الحزب الشيوعي العراقي، تمت تصفية نصف القيادة وعشرات من الكوادر الآخرين، على أيدي الحزب عشية وخلال ما سمي المؤتمر الرابع، بحجة وجود آراء مغايرة واختلافات تتعلق بالموقف من الحرب العراقية- الإيرانية وأساليب الكفاح والتحالفات والاستحواذ على أمور التنظيم والتلاعب بمقدراته المالية. وإلى ذلك تشظى حزب الدعوة الإسلامي (العراقي) إلى ستة أحزاب ولم يبق من هيكله القيادي سوى أعضاء قليلين. وفي أحزاب قومية عربية عراقية، لم تبق الخلافات الداخلية من الحزب سوى اسم الأمين العام.
لكن من خلال الأمثلة السابقة ذاتها، يؤكد الكتاب أيضا على أنه من الناحية الموضوعية، كانت أجواء العسف والاستبداد المهيمن، تدفع الكثير من الحركات إلى أسلوب العمل السري، كما أدت إلى صعود قيادات غير كفؤة ولا منتخبة، مما شجع المزاج غير الديمقراطي داخل هذه الأحزاب.
وتحلل دراسة أخرى واقع "الديمقراطية داخل الأحزاب وفيما بينها في المغرب". فقد ظهر أول حزب مغربي باسم "الحزب الوطني" في عام 1937، قبل أن يتحول إلى "حزب الاستقلال" في عام 1943. لكن النخبة الوطنية التي وحدها النضال ضد المستعمر، فقدت انسجامها بعد رحيله، فكان من نتائج ذلك أول انشقاق حزبي أرخ لميلاد "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" في عام 1959، ليخرج منه في عام 1975 "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية". وكما كان الانقسام الأول فاتحة عهد لسلسلة من الانقسامات داخل الأحزاب المغربية أضعفت قدرتها إزاء المؤسسة الملكية، فقد تجلت الدينامية الانقسامية بشكل واضح في فشل أهم مكونات اليسار الإصلاحي المغربي في الحفاظ على وحدتها التنظيمية.
أما عن "الأحزاب السياسية في الجزائر والتجربة الديمقراطية"، فيتضح من دراسة بنفس العنوان، أن تلك الأحزاب انطوت على قصور عميق فيما يتعلق بتصوراتها الديمقراطية، فانتهت تجربة التعددية السياسية إلى حالة من الجمود غير مكتفية بذاتها؛ فـ"حزب جبهة التحرير الوطني" الذي قاد النضال من أجل الاستقلال، أخفق في تحرير المجال السياسي وانفردت به القيادة العسكرية فأصبح جيشاً له حزبه ودولته، ثم سرعان ما انكشفت أوجه أزمته في أول انتخابات تعددية عام 1991/1992.
ويت