تستخدم التطعيمات لحماية جسد الإنسان – أو الحيوان- من الآثار المرضية الناتجة عن العدوى بميكروب ما، سواء كان هذا الميكروب بكتيريا أو فيروساً أو سموماً أيا منها. وحسب نوع الميكروب الذي يراد الوقاية منه، يمكن أن يتكون التطعيم من ميكروب حي كامل، تم إضعافه وفقد شراسته أو قدرته على إحداث المرض، أو أن يتكون من جزيئات صغيرة من جسد الميكروب. ويهدف الأطباء من حقن مثل تلك المواد داخل أجساد الأطفال والبالغين، إلى تعريف جهاز المناعة بها، ومن ثم تدميرها وتذكرها لاحقاً. فجهاز المناعة له (ذاكرة)، يمكنه من خلالها تذكر المواد الغريبة التي دخلت الجسم، واسترجاع أفضل الطرق وأكثرها فعالية في القضاء عليها. ولذا عندما يصاب الشخص لاحقاً بالميكروب كامل الحيوية وبالغ الشراسة، يكون جهاز المناعة بميكانيزماته المختلفة وآلياته الدفاعية المتعددة، على أهبة الاستعداد وعلى درجة قصوى من اليقظة، تمكنه من القضاء على الميكروب الغازي والتخلص منه قبل أن يتمكن من الجسد وأن تستفحل آثاره المرضية والسمية.
والغريب أن التطعيمات التي بدأ استخدامها منذ أكثر من قرنين، قد تحولت مؤخراً إلى نقطة ساخنة في الانتخابات الأميركية. فأمس الأول تبادل المرشحان الأميركيان الاتهامات حول الفوضى التي أصابت توريدات السوق الأميركية من تطعيم الأنفلونزا. حيث اتهم المرشح الديمقراطي "جون كيري" الرئيس الأميركي "جورج بوش" بأن سياسته الصحية تعتمد في محورها على أنه لا يفترض في أفراد الشعب الأميركي الوقوع فريسة للمرض من الأساس (don’t get sick policy). بينما رد عليه الأخير، بأنه يحاول استخدام أسلوب التخويف والترهيب، في ولاية ينتشر بها الكثير من المسنين والمتقاعدين، والذين يشكلون الهدف الأول في حملة التطعيم ضد الأنفلونزا. هذه الفوضى سببها قيام السلطات الصحية في بريطانيا مؤخراً، بإغلاق خط إنتاج رئيسي لتصنيع تطعيم الأنفلونزا، بسبب حدوث تلوث فيه وعدم صلاحية المنتج النهائي تبعاً لذلك. ولكن بعيداً عن السياسة وفي تطور مثير في عالم التطعيمات الطبية، أعلنت شركة بريطانية أخرى هذا الأسبوع، عن نجاحها في تطوير تكنولوجيا جديدة، تلغي الحاجة إلى التبريد المستمر الضروري للحفاظ على صلاحية التطعيمات، وهو التطور الذي من شأنه أن يحدث ثورة في هذا المجال الطبي بالغ الأهمية. فمن المعروف أن التطعيمات الطبية يجب أن تظل - منذ لحظة إنتاجها إلى لحظة استخدامها- في سلسلة متواصلة من المبردات أو الثلاجات تعرف بالسلسلة الباردة (Cold Chain). وجود التطعيمات في هذه الحالة المستمرة من التبريد، ضروري لاحتفاظها بفعاليتها ومنع فسادها.
ولكن مثل هذا الهدف على بساطته ثبتت صعوبة تحقيقه في الواقع العملي وخصوصاً في دول العالم النامية، إلى درجة أن ما يقارب نصف ما تنتجه سنوياً المعامل الطبية وشركات الأدوية من تطعيمات يذهب هباء، بسبب تلوثه أو وجوده - ولو للفترة قصيرة- خارج السلسلة الباردة تلك، مما يسبب فساده. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن مليوني طفل يلقون حتفهم سنوياً بسبب أمراض كان يمكن الوقاية منها من خلال التطعيمات، وأن التكنولوجيا الجديدة يمكنها أن تزيد من عدد الأطفال حول العالم الذين ستصلهم تطعيمات صالحة بمقدار عشرة ملايين طفل، سندرك بسهولة مدى التأثير الصحي الذي ستتركه هذه التكنولوجيا على مستقبل الملايين من أطفال العالم. وتعتمد تكنولوجيا الشركة البريطانية (Cambridge Biostability)، على ما يعرف علميا بـ(anhydrobiosis)، وهي عملية يتم فيها حفظ الخلايا والمواد العضوية من خلال تجفيفها. هذا الهدف يمكن تحقيقه في حالة التطعيمات، من خلال التكنولوجيا الجديدة التي تطلق عليها الشركة البريطانية لقب السائل الثابت (stable liquid)، والتي يتم فيها استبدال الماء داخل الخلية بمحلول سكر، مما يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة دون نشاط يذكر، وهي الحالة المعروفة بالإحياء المعلق (Suspended animation)، إلى أن توضع الخلية في بيئة بها ماء مرة أخرى، وساعتها تدب فيها الحياة مرة أخرى وتعاود نشاطاتها الحيوية بشكل طبيعي. وببساطة يمكن أن نلخص كل هذا في أن الخلية لا تحفظ هنا من خلال التبريد المعتاد، بل من خلال نزع الماء من داخلها واستبداله بمحلول خاص. وأثناء وجود التطعيم في هذه الحالة الخاصة، يمكن نقله إلى جميع أصقاع الأرض دون الحاجة إلى مبردات أو ثلاجات. وعند وصول التطعيم إلى وجهته النهائية، يتم حقنه داخل الجسم، وساعتها يستعيد فوراً حيويته ويؤدي أثره المرجو على جهاز المناعة. ويمكن تشبيه هذه العملية بما يحدث في صناعة تجفيف الألبان، وإن كان في هذه الحالة لا يتم نزع السوائل من الخلايا، بل يتم في الحقيقة استبدالها بمحلول خاص.
ونظرياً يمكن استخدام هذه الفكرة على جميع أنواع التطعيمات، بما في ذلك تلك التي تحتوي على ميكروبات حية، مثل التطعيم ضد الحصبة. وعلى الرغم من أن عملية التجفيف الحيوي تلك (anhydrobiosis) معروفة وموثقة علمياً، إلا أنها لم تستخدم من قبل في مجال التطعيمات ال