كتبنا من قبل أربع مقالات عن المشروع الأميركي لصياغة الإسلام الليبرالي (من 15 يوليو إلى 5 أغسطس 2004) والذي يتمثل في التقرير الذي نشرته مؤسسة "راند" الأميركية للباحثة "شيرلي بينار" بعنوان "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات"، وذلك عام 2003.
وركزنا في تحليلنا النقدي لهذا التقرير الخطير، الذي يقدم لصانع القرار الأميركي لأول مرة استراتيجية معرفية متكاملة تكفل للولايات المتحدة الأميركية – بعبارات التقرير – الإسهام في عملية إعادة بناء الدين الإسلامي، من خلال استبعاد الاتجاهات الأصولية والتقليدية، ودعم الاتجاهات العلمانية والحداثية من خلال اصطناع شركاء من العالم الإسلامي يقومون بهذه المهمة. وهؤلاء الشركاء سيتلقون دعما أميركياً ماليا مباشراً. وقد لفت نظري أن الباحثة الأميركية أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة السنة النبوية والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث، لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
وصدر قرار من الكونجرس الأميركي بتخصيص منحة مالية ضخمة للوكيل الأميركي المعتمد في مصر، لتنفيذ هذا البرنامج، وإمعاناً في التحدي تقرر أن تكون هذه المنحة خصماً من المعونة الأميركية للحكومة المصرية.
وقد تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في إعادة "بناء الدين الإسلامي" بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً موضوعه "الإسلام والإصلاح" بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية وهي مراكز "سابان" لدراسات الشرق الأوسط التابع لمعهد "بروكنجز"، ومركز دراسات الإسلام والديمقراطية بواشنطن، ومنبر الحوار الإسلامي بلندن إضافة إلى عدد من الباحثين والأكاديميين من الدول العربية وأميركا وأوروبا. وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنى الدعوة إلى "إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار استراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي.
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وخلق مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وابتداء يمكن القول إن هذه التوصيات تكاد تكون إعادة إنتاج شكلاً ومضموناً لتوصيات "شيرلي بينار"، وخصوصاً فيما يتعلق برأيها في السنة وخطورة الأحاديث النبوية. ومعنى ذلك بكل بساطة أن المؤتمر الذي نظمه مركز ابن خلدون ومولته الولايات المتحدة الأميركية، كان تطبيقاً عملياً لتوصيات تقرير "راند" عن الإسلام المدني الديمقراطي.
ويلفت النظر بشدة أن المؤتمر لم يقنع بإصدار هذه التوصيات المثيرة للجدل الشديد، ولكنه خطا خطوة أبعد ولها دلالة مهمة حين اعتبر بيان المؤتمر الحاضرين فيه نواة أساسية لحركة جديدة تسمى: "الإسلاميون الديمقراطيون" في العالمين العربي والإسلامي، يتم دعوتهم بصفتهم الشخصية مرتين في العام لمتابعة التوصيات الختامية للمؤتمر.
ومعنى ذلك أن توصيات التقرير الذي نشرته مؤسسة راند والتي تمثل العقل الاستراتيجي الأميركي لـ"شيرلي بينار" عام 2003 تم تطبيق توصياته بسرعة خارقة. وتمثل ذلك في مؤتمر "الإسلام والإصلاح" الذي تحول إلى حركة باسم "الإسلاميين الديمقراطيين" كما أوصت بذلك "شيرلي بينار"، حين دعت إلى توحيد صفوف الإسلاميين الحداثيين بل وبعض الإسلاميين التقليديين، الذين يوافقون على تحديث الدين الإسلامي بناء على الرؤية الأميركية.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأميركا، وتحول المؤتمر إلى فوضى عارمة حين أصر بعض الحضور على إقامة صلاة المغرب في نفس القاعة التي كان يعقد فيها المؤتمر الصحفي، مما أدى في النهاية إلى فشل ذريع للمؤتمر الصحفي.
وبغض النظر عن هذه الأحداث، فإن ردود الفعل لشيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي وعديد من علماء الأزهر كانت بالغة الحدة والعنف، وخصوصاً فيما يتعلق بتوصية المؤتمر بحذف ال