إن أهم قانون في السياسة هو الكذب (المتقن). وإذا كان روبرت غرين (Robert Greene ) أصدر كتابه المكيافيلي الجديد بعنوان "48 قاعدة في الاستحواذ على السلطة"The 48 Laws of Power) ) فيجب أن يضيف القانون الأول الذي أعلنته من قديم (كاترين دي ميديتشي): "اكذب بجرأة وكرر ذلك حتى يصدقك الناس". مع ملاحظة أن هذه الإضافة ستدخل الفوضى إلى لوحة الشطرنج التي اخترعها (غرين). ولكنها السياسة هكذا لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. وعندما كان غاندي يمارس الصدق اعتبروه ساذجاً غبياً ولم يكن كذلك. وفي القرآن اتهم قوم صالح النبي أنه كذاب (أشر). فهل يعني هذا أن المجرمين الذين عقروا الناقة كانوا هم الصادقين؟ وعندما غضب قوم لوط على نبيهم قالوا: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. فهنا تنقلب إحداثيات القيم وتصبح الطهارة جريمة والقذارة فضيلة. وعندما رجع (تشمبرلين) إلى بريطانيا بعد اتفاقية (ميونيخ) مع (هتلر) عام 1938 خطب في الجماهير فقال: لقد حققنا الصلح مدى الدهر. ولكنه عندما صعد السيارة مع (هاليفاكس) قال له إنها قضية ثلاثة أشهر فقط؟ وفي السياسة لا يعني (صدق) الخبر شيئاً بل (توظيفه).
وعندما سألت صديقاً لي كيف تروج إشاعة ضد طبيب لفعله الفاحشة ثم يطرد من عمله، قال هي سمعة الطبيب المسبقة. ولو اتهمت بريطانيا (غاندي) بأنه عنيف ما أفلحت بسبب نظافة تاريخ الرجل، فهو خلق مناعة أخلاقية من أن تلصق به تهم من هذا النوع. وأحداث سبتمبر راجت ضد العرب للاستعداد الخفي. وتطهير الوسط مهم لخوض معركة الأفكار. ولا تنتشر الأمراض بقوة الجراثيم بل بانهيار الجهاز المناعي. والمفكر الجزائري مالك بن نبي يفرق بين (صدق الأفكار) و(فعالية الأفكار) فلا يشترط انتشار فكرة (صدقها) بل (فعالية) من خلفها. و(الشيوعية) انتشرت، و(النازية) مات من أجلها الملايين، و(البعثية) قبر من أجلها الناس في قبور جماعية ليس لأنها صادقة بل لأنها وظفت بنجاح. وعندما تنتشر (إشاعة) فلا يهم أنها (صحيحة) ولا يهم أنها ستكشف بعد قليل والمهم أنها تؤدي دورها في الوقت المناسب ضد الشخص المناسب في المكان المناسب. وحالياً يتداول الناس كتاب "الخديعة الكبرى" لمؤلفه الفرنسي (تيري ميسان) يزعم فيه أن أحداث سبتمبر كلها مفبركة من نفس الإدارة الأميركية، وأنا شخصياً شاهدت فيلما بعنوان "شارع آرلنجتون" يعرض قصة أستاذ يدرس مادة الإرهاب للطلبة ويحذرهم من أن عملية إرهابية يجب ألا تفهم أنها تدبير شخص ناقم بل بالأحرى بتخطيط وتنفيذ شبكات إجرامية كبيرة، ويختتم الفيلم أن نفس الأستاذ يستخدم من حيث لا يدري بوضع متفجر في سيارته ثم خطف طفله وجعله يتعقب سيارة أخرى إلى مركز الاستخبارات العامة في البلد حيث يجري تفجيره وسيارته والمركز ليعلن التلفزيون أن الأستاذ كان مدبر الانفجار. وهذا الفيلم عرض على الشاشة قبل أحداث سبتمبر. والتاريخ يروي لنا قصصاً مشابهة منها ما كشف الغطاء عنه ومنها ما لايزال طي الكتمان. وحالياً فتحت الكنيسة الطريق للاطلاع على 4500 ملف سري تعود لأيام محاكم التفتيش فيما يشبه بريسترويكا كنسية، كذلك ما فعله (شك هانسن) في الاطلاع على الملفات السرية لقصة تطور السلاح النووي في أميركا. وقصة اغتيال (كينيدي) حركت الخيال فعرضت قناة الديسكفري (إعادة تركيب الأحداث) لتقول إن مكان إطلاق النار غير ما زعم أنه أوزوالد الذي قتله بدوره روبي اليهودي. ومسرحية المنشية التي فبركها عبدالناصر ضد الإخوان المسلمين ليتخلص منهم معروفة ومشهورة. وكذلك حريق (الرايخستاغ) الذي رتبه هتلر للقضاء على الشيوعيين. ومجموع هذه الأفكار تقول إن عالم السياسة يشبه الغابة وقوانينه ليست أخلاقية ولكن هذا لا يعني أن نصبح نحن لا أخلاقيين.