لعل ما يميز الحقبة التي نعيش فيها والتي نطلق عليها اسم حقبة العولمة أو التواصل المتنامي بين الفضاءات السياسية والثقافية والجيوستراتيجية هو أنه لم يعد هناك أمل لأي دولة في الحفاظ على وجودها ولا لأي شعب للاحتفاظ باستقلال قراره الوطني من خلال الدفاع التقليدي الجامد عن السيادة الوطنية والانغلاق على الداخل ورفض التفاعلات الدولية. إن الاحتفاظ بالحد الأدنى من الإرادة الحرة والاستقلال يستدعي اليوم، بالعكس مما كان عليه الأمر في الماضي، الانتقال من مفهوم السيادة إلى مفهوم الشراكة. فبقدر ما ينجح شعب من الشعوب في التحول إلى شريك في تقرير المصير العالمي يحظى أيضاً بهامش من المبادرة والحرية التي تتيح له تكوين قرار وطني بل رأي عام داخلي ولحمة وطنية جامعة.
وفي قلب هذه السياسة التي تؤسس لمفهوم الشراكة العالمية يوجد مفهوم المسؤولية. فعلى درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموماً والشعوب المحيطة بها بشكل خاص يتوقف حظها في الحصول على موقع مرموق في هذه الشراكة. ومن الواضح أن هذا الشعور بالمسؤولية يقف على طرفي نقيض من روح التهرب من المواجهة والتبرؤ ورمي المسؤولية على الآخرين والاحتماء وراء مفهوم الضحية الذي عبر عنه سلوك النخب العربية وكشفت عنه الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001.
وللمسؤولية السياسية في هذا السياق الذي نتحدث من خلاله ثلاثة أبعاد أو وجوه لم يعد من الممكن فصل واحدها عن الآخر. البعد الأول هو مسؤولية النخب أو الطبقات السياسية تجاه المسائل التي تتعلق بتسيير البلاد التي تحكمها وحسن إدارتها لمواردها واستثمارها لها. فلم يعد الحكم داخل أي بلد مسألة خاصة بالنخب الحاكمة ولكنه أصبح هو نفسه مسألة من مسائل الإدارة الدولية بقدر ما أصبحت للسياسات الفاسدة في أي بلد نتائج أو عواقب مباشرة على سياسات ومصير المجتمعات والبلدان الأخرى القريبة والبعيدة معاً. ومن هنا فإن النخب التي تظهر مقدرة ضعيفة على إدارة موارد البلاد التي تحكمها وتتعرض باستمرار لتحديات داخلية لا تنجح في معالجتها بغير العنف وإسالة الدماء وتبقي الباب مفتوحاً بشكل دائم أمام اضطرابات وقلاقل حاملة لمخاطر كبيرة لها ولجيرانها وللمجتمعات الأخرى، تفقد الصدقية العالمية وتصبح هي نفسها هدفا لضغوط واستراتيجيات إقصاء خارجية تقودها تلك الدول التي تعتقد أنها الأكثر تعرضاً للاساءة أو لمخاطر سياساتها اللاعقلانية وضيقة الأفق. وهذا ما يجعل وسوف يجعل من التدخل في شؤون الدول أمراً طبيعياً ووارداً أكثر من أية فترة سابقة في نظري ومتزايداً باستمرار. وهو ما سوف يدفع الرأي العام الدولي أيضاً إلى القبول بشكل أكبر بمثل هذه التدخلات، وربما إلى تقنينها بصورة أدق في مرحلة قادمة في دائرة الأمم المتحدة لإضفاء شرعية دولية مباشرة وواضحة عليها. هذا ما بينه التأييد الواسع الذي حظي به مشروع تغيير النظام البعثي في العراق عن طريق التدخل العسكري المباشر للدول الكبرى، وما برهنت عليه بشكل أكبر مبادرة الشرق الأوسط الأميركية التي وافق عليها بعد تعديلها بما يضمن مصالحه الاتحاد الأوروبي كما دعمتها جميع الدول الصناعية في مجموعة الثمانية الكبار، وهو ما أكد عليه كذلك القرار 1559 الذي اعترض على تمديد ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود بالرغم من حرص أصحاب التمديد على احترام القواعد الدستورية واحتجاجهم بتمسكهم بالوصاية السورية. وكل ذلك يجعل من المؤكد أن عمليات التدخل من قبل الدول الكبرى، سواء أجاءت تحت غطاء قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة أو من دونهما، تسير في اتجاه التنامي السريع والثابت في المستقبل وتجد أكثر فأكثر ما يسمح بتبريرها بل ربما بالمطالبة بها في منطقة العالم الفقير الذي لا تبدي فيه النخب الحاكمة قدرة كبيرة على معالجة التوترات ومواجهة التحديات الحقيقية سواء ما تعلق منها بتحديات التنمية الإنسانية أو بإيجاد الحلول السياسية والتوافقية للصراعات والنزاعات الاجتماعية والدينية والإثنية قبل السقوط الأليم نحو مزيد من الاضطرابات والحروب والمجاعات وجميع أشكال التقهقر والانحطاط المأساوية التي تقود إليها سياسات النخب الرديئة والمفتقرة للكفاءة والشعور بالمسؤولية.
ولا شك عندي أن الزيادة المستمرة في طلبات التدخل الخارجي وممارسته من قبل الدول الكبرى أو مجلس الأمن أو حتى قوى دولية متوسطة سوف يشكل بؤرة نزاع دولي متصاعد. ولابد أن يشكل منذ الآن في نظري نافذة للتفكير الجدي بقضايا جديدة ومتجددة بالنسبة للمجموعة الدولية وفي مقدمها مسألة بناء إدارة سياسية عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة تشارك فيها الشعوب جميعاً وتتفاوض في ما بينها، في ما وراء حدود الدول التي تنزع إلى أن تخضع أكثر فأكثر في أجندتها الداخلية إلى النخب الحاكمة التي تتحكم بها وتستخدمها لخدمة مصالحها الفئوية وحدها.
والبعد الثاني للمسؤولية السياسية المنتظرة من الحكومات الوطني