لا شك أن أولئك الذين تساورهم المخاوف الآن بشأن عودة التجنيد العسكري أصبحوا في موقف شبيه بأولئك الذين تخوفوا من عودة عجز الميزانية قبل أربعة أعوام من الآن، عندما بدأ الرئيس بوش يروج لبرنامجه الخاص بتخفيض الضرائب. وعندها أكد الرئيس بوش أن الميزانية لن تشهد عجزاً، إلا أن أولئك الذين كانوا ينظرون إلى الحقائق بأعين فاحصة ظلوا يتشككون في حدوث الأسوأ. والآن فإن الرئيس بالمقابل يصر على أنه لن يستعيد العمل بالتجنيد الإجباري إلا أن جميع الحقائق تشير إلى أنه سوف يفعل ذلك.
وهنالك أسباب دعت البعض منا إلى ألا يصدق وعود الرئيس بوش بشأن الميزانية، أولها ادعاؤه بأن التخفيضات الضريبية التي سوف ينفذها قابلة لأن تصبح تحت نطاق السيطرة ضمن خطة واقعية للميزانية. وثانياً، أن الأهداف بعيدة المدى لسياساته إنما تتضمن خصخصة جزئية للضمان الاجتماعي - والآن أصبح من الواضح أن هذا الأمر ضمن أجندته للولاية الثانية- سوف تترتب عليها تكاليف عالية لم يتم احتسابها ضمن هذه الخطط الواقعية التي أشار إليها. وهو أمر سوف يقودنا إلى تشكيك مبرر بأنه على الرغم من الوعود الانتخابية التي يطلقها بوش إلا أنه سوف يجد نفسه مجبراً (في حال فوزه بالرئاسة) لأن يزيد من عجز الميزانية.
وليس هناك أي اختلاف عندما يتعلق الأمر بالتجنيد الإجباري، وبلا شك أن ادعاء بوش بأننا لن نحتاج إلى أي توسعة في الجيش الأميركي أمر ينافي الحقيقة والواقع بشكل كبير، إذ يتجاهل تماماً تلك الضغوط العاتية التي يقع تحتها الجيش حالياً. وكذلك فإن التجربة في العراق قد كشفت بأن السيد بوش في ظل تمسكه بالمضي قدماً في عقيدته السياسية التي عرفت باسم الحرب الاستباقية سوف يحتاج إلى قوات عسكرية أكبر بكثير مما هو متوفر الآن، وهو الأمر الذي سوف يقودنا إلى تشكيك مبرر أيضاً بأنه بعد فوزه بالانتخابات سوف يعمد إلى توسعة هائلة في الجيش الأميركي لن تتحقق إلا بالعودة إلى التجنيد العسكري. إن تأكيدات الرئيس بوش بأن هذا الأمر لن يحدث إنما تنطوي على مجافاة وإنكار للحقائق. ففي الأسبوع الماضي بعثت اللجنة الوطنية للجمهوريين برسالة تهديدية غاضبة إلى منظمة (روك ذا فوت) التي ظلت تستغل موضوع التجنيد العسكري بهدف حشد وتعبئة الشباب من الناخبين. وجاء في الرسالة "إن هذه الخرافات التي تتعلق بالتجنيد العسكري قد أسيء استغلالها بشكل كبير". وكان بوش قد صرح قائلاً:"إننا لا نحتاج إلى تجنيد عسكري فإن جيشنا من المتطوعين يعمل بشكل جيد".
وفي الحقيقة فإن الجيش بأكمله يرزح تحت ضغوط حادة، فقد توصلت دراسة أشرف عليها دونالد رامسفيلد نفسه إلى نفس النتيجة التي توصلت إليها جميع الدراسات المستقلة بأن الولايات المتحدة ليس لديها العدد الإجمالي الكافي من القوات لإدامة وتنفيذ العمليات بالوتيرة الحالية. وفي العراق فإن النقص في العدد الكافي من الجنود لحماية قوافل المؤن ناهيك عن إشاعة الهدوء والاستقرار في الدولة قد أصبح السبب الرئيسي في حوادث الجنود الاحتياطيين الأخيرة الذين رفضوا السير في هذه القوافل والتي وصفوها بأنها "مهمة انتحارية".
وكان القادة الميدانيون في العراق قد طالبوا بالمزيد من القوات (دعك من النفي المستمر للإدارة)، ولكن لا توجد هناك قوات إضافية لإرسالها في حقيقة الأمر. ويبدو أن النقص في القوى البشرية قد وصل مستوى من الحدة إلى درجة أن وحدات التدريب مثل (كتيبة بلاك هورس) المعروفة والمتخصصة في تدريب الوحدات الأخرى على فنون المعارك قد بعث بها هي نفسها إلى ميدان القتال. وكان فيليب كارتر أحد الخبراء العسكريين قد وصف هذا الأمر قائلاً:"إنه أشبه بمن يأكل بذور زراعته". وعلى كل فهل لدينا جيش كامل من المتطوعين في هذه المرحلة؟ إن آلاف الجنود الاحتياطيين وأعضاء الحرس الوطني لم يعودوا يعملون في الخدمة تطوعاً. فقد أصبح يتم الاحتفاظ بهم في الجيش بموجب شروط تجنيدهم المتفق عليها بموجب أوامر تعويض النقص والخسائر وقد تجلت بوضوح استراتيجية الإدارة القائمة على نفي وإنكار هذه الحقائق في إحدى اللحظات المهمة، أثناء المحاورة التلفزيونية الرئاسية الثانية، عندما وصف السيناتور جون كيري سياسة تعويض النقص والخسائر بأنها أشبه بالتجنيد العسكري من الباب الخلفي. وعندما أراد شارلس جيبسون المذيع الذي أدار الحوار أن يحصل على رد فعل من الرئيس بوش سرعان ما لجأ الأخير إلى تغيير الموضوع والإشادة بحلفائنا من البولنديين منهياً بذلك ما كان يعتبره بالتأكيد سلسلة من الأسئلة التي تتضمن العديد من عناصر الوعورة والمخاطر.
وخلال المناظرة الرئاسية الثالثة حاول الرئيس بوش التقليل من أهمية الموضوع مشيراً إلى أن الاحتياطيين الذين أرسلوا إلى العراق لا ينظرون إلى خدمتهم كتجنيد عسكري من الباب الخلفي. وإنما يعتبرونها كفرصة سانحة لخدمة وطنهم. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتساءل: لماذا تم إجبارهم على ذلك بدلاً من الطلب منهم الاستمرار في هذه الخدمة؟
إن الحقيقة تشير بوضوح إلى أن حرب العراق التي قصد منها