"وانقاري ماثاي" اسم موسيقي يخفي وراءه روحاً وثابة شرسة. فلأكثر من ثلاثة عقود ظلت تواجه الديكتاتوريين والمحبطين وهي تبني "حركة الحزام الأخضر" في وطنها كينيا وتساعد في غرس ملايين الأشجار في الأنحاء الأفريقية الأخرى. والآن فإن "وانقاري ماثاي" الفائزة بجائزة "نوبل" للسلام 2004 أصبحت فجأة رمزاً عالمياً للارتباط بين حماية البيئة والحيلولة دون وقوع النزاعات. ولكن الجائزة شأنها شأن العديد من الأمور التي تتعلق بطبيعة حياتها المهنية، أثارت حزمة من الجدل والاختلاف، حيث أخذ المنتقدون يتساءلون: هل يجب أن تذهب جائزة "نوبل" للسلام إلى أحد ناشطي البيئة؟ وبموجب وصية "ألفرد نوبل" فإن هذه الجائزة إنما تختص "بذلك الشخص الذي فعل أكثر أو أفضل ما لديه لتوثيق أواصر الإخاء بين الدول أو المساعدة على إنهاء حالة الاستنفار وسط الجيوش أو عقد أو الترويج لعقد مؤتمرات السلام".
وخلال فترة تزيد على 50 عاماً بعد وفاة صاحب الجائزة في عام 1896 ظلت لجنة جائزة "نوبل" (التي يعينها البرلمان النرويجي) تمنح جائزة السلام للسياسيين والدبلوماسيين والشخصيات العالمية من البيروقراطيين ورجال الخدمة المدنية. إلا أنه وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأت لجنة "نوبل" في انتهاج المزيد من المرونة والتوسع في الرؤى بشأن دستورها. ففي عام 1952 منحت اللجنة جائزة السلام لـ"ألبرت سشويتزر" أحد الفيزيائيين والمبشرين الذي لم تؤد مساهماته الأسطورية للإنسانية بشكل مباشر إلى تجنب النزاعات بتلك الطريقة التي نصت عليها وصية "نوبل". ومنذ ذلك الوقت تضمنت قائمة الفائزين أسماء مثل "نورمان بورلوج" والأم "تريزا" و"ديزموند توتو" و"إيلي ويسيل"، وجميعهم شخصيات استثنائية يعكس اختيار كل منهم اهتمام اللجنة المتنامي بالقادة الملهمين وتلك القوى التي تقف خلف الكفاح والتصميم.
وبهذا التقليد الجديد فإن اختيار أحد نشطاء البيئة لنيل جائزة "نوبل" للسلام ليس خطوة جيدة فحسب، وإنما تضمنت أيضاً تأثيراً لا يخلو من الإيحاء والإلهام. إن مجيء هذه الخطوة في وقت يركز فيه معظم سكان العالم على الخسائر اليومية في حروب مثيرة للجدل قد برهن بشكل خاص على الكثير من بُعد النظر والحكمة. وبلا شك فإنه وعبر تسليطها الضوء على الموضوع الذي لم يكن من المقدر له أن يلقى اهتماماً كافياً لولا هذه الجائزة - وهو الدور الذي تلعبه البيئة في النزاعات الإنسانية- فلربما أن لجنة نوبل قد ساعدت في تفادي العديد من المآسي التراجيدية.
ولكن ما العلاقة التي تربط حماية البيئة مع مسألة تجنب النزاعات؟ بادئ ذي بدء، إن التدهور البيئي يعتبر في غالب الأحيان مدعاة للعنف والصراعات. ولا يوجد مكان تتجلى فيه هذه الحقيقة بوضوح سوى إقليم "دارفور". إن السبب المباشر لهذه المأساة في السودان يكمن في ذلك السلوك الوحشي الذي انتهجته القوات الحكومية والمليشيات ضد المدنيين العزل. ولكن ما يقف خلف الكارثة الحالية بشكل رئيسي هو التصحر الذي ظل إقليم دارفور يعاني منه الأمرّين خلال العقدين الماضيين. ولقد أدى تمدد الجفاف والمعالجة الإدارية السيئة للأراضي إلى تمدد رقعة الصحراء باتجاه الجنوب عاماً بعد عام، مما أجبر البدو من العرب على الترحال تدريجياً من الشمال باتجاه الأراضي الزراعية في الجنوب ما ينشر الغضب والدمار. ولكن هل كان من الممكن تجنب المأساة في حال توفر شخصية ملهمة مثل "وانقاري ماثاي" تساعد شعب السودان على حماية أراضيه وتفادي التصحر؟ لربما. ويمكن توجيه مثل هذه الأسئلة في أماكن عديدة أخرى في أنحاء العالم.
ففي الفلبين، على سبيل المثال هناك اضطرابات طال عهدها، ظلت تجد مورداً جاهزاً للتجنيد والانضمام من قبل أولئك المحاصرين بالفقر بسبب إزالة أشجار الغابات. وفي المكسيك أدى تآكل التربة وتجريد الغابات من الأشجار إلى اندلاع تمرد في "شياباسي" في منتصف حقبة التسعينيات زلزل الأرض تحت أقدام الحكومة الوطنية وساهم في أزمة عملة "البيسو" التي أدت إلى اضطراب هائل في الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم. أما في باكستان حيث يفضل المجتمع الدولي منع تفاقم الأوضاع الاجتماعية، فإن تدهور مستويات المحاصيل الزراعية أجبر العديد من المزارعين الفقراء على الهجرة إلى "كراتشي" والمراكز الحضرية الأخرى حيث أدى النقص في الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب إلى إشعال الاضطرابات وأعمال العنف.
وتفترض الدراسات العلمية أن الضغوط البيئية أصبحت تعتبر في الكثير من الأحيان، السبب الرئيسي في النزاعات بين الدول. فهذه الضغوط البيئية ظلت تفاقم المزيد من المشاكل الاجتماعية مثل الاختلافات العرقية التي باتت تعرف بأنها السبب المباشر الأكبر في اشتعال هذه النزاعات. وهنالك ارتباطات أخرى بين البيئة والنزاعات حيث إن الألفة والتراحم اللذين يفترضهما وجود العالم الطبيعي الأخضر من شأنهما أن يجمعا بين المتنافسين وأن يساعداهم على تجاوز المرارات. ولم يكن من قبيل الصدفة في فترة السبعينيات عندما انفتحت الأبواب بين