"زوجتك ابنتي" أو "بعتك البيت" أو "إنني أبطل وكالتي لفلان واعتبرها لاغية" كلمات قليلة وجمل قصيرة ولكنها تحمل معاني كثيرة ومسؤوليات جمة، إنها لا تحتمل المزاح ولا "العفوية" ويدرك قدرها علماء الفقه، ورجال القضاء والقانون، فلا يلقون بها على عواهنها، وإنما يضبطونها بل أحياناً يحاسبون من يتفوه بها دون أن يعنيها.
ولكن الغريب أنه بينما نتشدد في أقوال تفضي إلى مجرد زواج وطلاق، وبيع وشراء، نتساهل في أمر جلل متعلق بأمن الأوطان، ورقاب العباد والحرمات، ألا هو "الجهاد" الذي يفتي به البعض بجهد أقل مما يبذل في إرجاع طليقة إلى زوجها، ومن هؤلاء الصديق المحامي باسم عالم الذي لم يعجبه تقديري لفتوى "العبيكان" في مقالي السابق، والتي وجدتها ملتزمة بمدرسة الشيخ ومنهجها السلفي، لحرصها على مسؤولية "الفتوى" لما يترتب عليها من تبعات تلزم الأفراد والحكومات، وقلت إن الفتوى ليست مقالاً يقرأ ويهمل أو خطبة حماسية، وإنما قول يترتب عليه فعل و عمل.
إن حال الدكتور باسم عالم كعشرات غيره يصرون على أن ثمة جهاداً في العراق وأفغانستان، فيقول في مقال نشره الأسبوع الماضي في صحيفة المدينة "إن اعتبار الجهاد فرض عين، إذا ما نزل الغاصب في ديار المسلمين يحتم على كل فرد من أفراد الأمة الخروج لملاقاته والموت دون استمرار بقائه في ديار المسلمين مهيمناً محتلاً". إن جملته هذه تشير إلى أننا متفقون وإن كان قد صاغ مقاله للرد على من وصفهم "الاعتذاريين الذين يحاولون عبثاً إعادة صياغة مفهوم الجهاد والمقاومة في مواجهة الحملة العالمية الضارية على موروثنا الإسلامي ورأس سنامه".
لنعد إلى ما قاله "إذا ما نزل الغاصب في ديار المسلمين يحتم على كل فرد من أفراد الأمة الخروج لملاقاته والموت دون استمرار بقائه في ديار المسلمين" ومن الواضح أنه يقصد الحالة العراقية والأفغانية اليوم بغض النظر عن النظر في المصلحة العامة أو رأي أهل البلدين.
إن جملة كهذه هي التي دفعت شباباً مثل ياسر حمدي الذي أقر الله عين والديه أخيراً به بعدما أعاده لهما معافى قبل أيام بعد مغامرة طائشة انتهت به إلى فتنة "طالبان" و"جهاد" مزعوم هناك، وهي التي تدفع ببعض أبنائنا اليوم إلى التسلل خلسة إلى العراق ليستخدموا كأدوات في صراعات خفية، لا يدركونها، وينتهون قاتلين لأنفسهم ولغيرهم من عراقيين أبرياء في عمليات انتحارية عبثية، فهل هذا ما يريده القائلون بالجهاد في العراق؟
لقد تحول النقاش بين المؤيدين للجهاد في العراق والمعارضين له إلى عملية ترجيح وتفضيل بين علماء أفاضل كالشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد المحسن العبيكان، وهذه مسألة غير صحيحة، ربما كان الأفضل لو ابتعد الشيخان وغيرهما عن الفتوى في مسألة سياسية صرفة تحكمها المصالح أكثر مما يحكمها الدين للأسف. ولو ابتعدنا نحن السعوديين والعرب عن الجدل حول الجهاد في العراق وتركنا الأمر لأهله وهم أدرى بشعابهم، لوجدناهم مختلفين بحكم موقعهم السياسي، فالبعثي المتضرر من تغير الحال وفقدان السلطة نجده من أشد المنافحين المؤيدين للجهاد، وهو الذي كان ينكل يوماً بـ"شباب الجهاد"، بينما عضو الإخوان المسلمين العراقي الذي تنفس الحرية أخيراً في وطنه وأصبح له حزب شرعي وصحيفة وإذاعة ودور يبحث عنه، تجده يرفض الجهاد، وإنه لا يتردد في انتقاد قوات الاحتلال والحكومة العراقية. وهنا صورة مصغرة مقتبسة من الخريطة السنية العراقية فقط، فأيهما على حق؟ البعثي أم الإخواني؟
ليت الأمور بالأسود والأبيض حتى يسهل الحكم والقرار، ولكن الرمادي هو الغالب، يختلط فيه الحق بالباطل، والمخلص بالمتاجر، فإذا كان العراقي محتاراً فكيف بحالنا نحن الأبعدين. ولكن بعضنا يصر على أن الأمور واضحة جلية فينتقي من العراقيين من يوافقون هواه، ويعتمدهم في خانة الصادقين الأوفياء للدين والوطن، ويلغي غيرهم بعد أن يزج بهم في خانة العملاء وتجار الأوطان، وما هكذا تورد الإبل، وحري بنا لو نبتعد قليلا عن العراق وننشغل بهمنا، و من أول همومنا الإرهاب، وبينه وبين الجهاد في العراق غاية ووسيلة، فبه يجمع التبرعات، وبه يجند الأحداث، وفيه يدربهم ويصنعهم على عينه ليرتدُّوا علينا وبالا، ليسرقوا أمل الوطن في نهضة جديدة وإصلاح حقيقي.
فماذا نريد من جهاد اختلف حوله أهله، وغمضت علينا أهدافه بين قائل بتحرير الوطن من احتلال الأميركي إلى قائل بمضي الجهاد حتى قيام دولة إسلامية سلفية، ولا يهمهم ما يحمل ذلك من مخاطر التقسيم والحرب الأهلية، بل حتى غمض علينا رجاله وتاريخهم. فمن قائل بوهم وجود قائد الجهاد "الزرقاوي" إلى قائل إنه "مجاهد" سابق كانت له معسكرات مستقلة في "هيرات" بغرب أفغانستان في زمن "طالبان" ولكنه كان مستقلا عن أسامة بن لادن وقاعدته ولم يبايعه إلا قبل أيام.
فكيف أقام في "هيرات" ومن سمح له، ومن كان ينفق على معسكراته؟ والغريب أن أول من ذكره كان الأميركيين في زمن صدام حسين عندما دخل العراق "خلسة" وكأنه يتوقع دورة الأيام، والدور الذي سيسند له لاحقاً. وحبذا