قد يمثّل الحدث، الذي برز في مدينة فرانكفورت الألمانية في الفترة ما بين 6 -11 من شهر أكتوبر الجاري، أمراً كبيراً حقاً في تاريخ العلاقات العربية- الأوروبية الحديثة، وربما خصوصاً فيما يتعلق بالشؤون الثقافية والسياسية الثقافية.
بل لعلنا هنا نلاحظ أن تلك العلاقات قد رُفعت إلى مستوى نوعي رفيع. وقد تجلّى ذلك خصوصاً في الشعار، الذي عمّ كل النشاطات الثقافية والسياسية الثقافية في فرانكفورت للفترة الزمنية المذكورة، وهو: أهلاً بالعالم العربي بمثابته ضيف شرف!
ولوحظ أن برنامج العمل جرى توزيعه بدرجة مركزة من التوازن بين قضايا الفكر والأدب والشعر والفن الموسيقي والفن التشكيلي، جنباً إلى جنب مع قضايا الفكر الديني والسياسي وما يدخل فيهما من أوجه متصلة بقضايا النظام العالمي الجديد، والأصولية، و"الإرهاب"، والتحالف الضمني بين ذلك النظام وهذه الأصولية في أحد جوانبها البارزة. ومن اللافت في مسار ذلك أن الندوات، التي أقامها مثقفون ومفكرون وباحثون عرب، كان يشارك فيها باحث أو أكثر من باحث من الألمان، ليُغني الحوار عبر الإفصاح عن الخصوصية النسبية الألمانية.
وبالتوازي مع ذلك، كانت تُقدّم في أماكن أخرى منتشرة على امتداد "مدينة المهرجان الفرانكفورتي" قراءات شعرية ومسرحية وروائية، لتمنح الحدث بعداً أكثر عمقاً وكونية، ولتجعل من مقولة "حوار الحضارات" أمراً محقّقاً، وإلى حد بعيد مثمراً.
ومن الشيّق والمثمر أن نشير إلى مسألتين اثنتين أثارتا حواراً عميقاً بين محاضرين عرب وآخرين ألمان، ومع من رافق الفريقين من جمهور ظامئ للمعرفة ومؤرّق بوهج القلق، الذي تثيره تطورات العالم الراهنة. أما المسألة الأولى فقد تبلورت بصيغة التساؤل التالي (وكنّا قد قدمنا محاضرة في ذلك مع محاضرات ومداخلات أخرى قدّمها آخرون): هل ما يجري تسويقه راهناً تحت مصطلح "الإسلام" ويعبّر عنه أمثال "بن لادن" و"الزرقاوي"، يتطابق مع الإسلام حقاً ناهيك عن التماهي معه؟ وبصيغة أخرى: هل ما يفعله أمثال هذين الشخصين "الأسطوريين" من أفعال "إرهابية" وفق الاصطلاحية الأميركية البوشية، يتحدد بكونه "الإسلام"، من حيث هو؟ وقد كانت هنالك حوارات ومداخلات على الحوارات تناولت التساؤل المذكور من تاريخ الإسلام، كما من راهنه، شكّكت بقوة، في المصداقية المعرفية والتاريخية لفكرة التطابق أو التماهي المذكورة. والطريف في هذا أن مثقفين ومستشرقين ألماناً، من الذين شاركوا في تلك الحوارات والمداخلات، انتهوا إلى عملية التشكيك المعنية.
أما المسألة الثانية، التي وجدت مَنْ أثارها من المثقفين العرب المشاركين، فقد أتت في سياق المناقشة حول "حقّ الملكية الفكرية"، الذي يمتلكه الكاتب الأجنبي (الألماني وغيره من الأوروبيين مثلاً) حيال أعماله التي تترجم إلى العربية. فمِمّا أشير إليه أن الكتّاب الأجانب المذكورين لا يطرحون على أنفسهم أبداً سؤالاً، كان عليهم أن يطرحوه منذ قرون، وهو التالي: أين حق الملكية الفكرية للأعمال التي تمت ترجمتها لابن رشد العربي - مثلاً- إلى اللغة اللاتينية، ثم إلى لغات أوروبية متعددة؟ مع الإشارة إلى أن هذه الأعمال كان لها تأثير تأسيسي عميق في الفكر الأوروبي الحديث، النهضوي والتنويري. وقد سعينا إلى تعميق هذه الفكرة من موقع "التراث الرشدي اللاتيني"، وإلى فتح آفاق متقدمة لها.
كان حضور العرب جيداً ومتطوراً في فرانكفورت، أسهم في تحقيق مزيد من التفاهم بينهم وبين الآخرين.
وثمة أمر لفت أنظار الجميع من المشاركين في المهرجان الدولي، كما انعكس في الإعلام الألماني بوضوح، وهو الموقف الذي أخذه الألمان من المشاركة العربية في المهرجان. فقد وُجد من اليهود هناك من رأى في المشاركة المذكورة ظاهرة إيجابية بل حقاً من حقوق العرب أن يعرضوا قضيتهم أو قضاياهم أمام الرأي العام العالمي ويناقشوا فيها. بيد أن جموعاً أخرى من اليهود الألمان اتخذوا موقف الخصومة والعداء من مشاركة العرب في فرانكفورت، وخصوصاً من الشعار الذي تصدّر المهرجان كله. ومع كل هذا بل كذلك بفضله -على الأقل جزئياً- حقق المهرجان الدولي انتصاراً فكرياً وثقافياً وأدبياً شعرياً وفنياً لمنظومة القيم الأخلاقية والمنظومة العقلانية الديمقراطية المستنيرة والإنسانية بين العالم العربي والمجتمع الدولي.