ماذا يشبه العالم منظوراً إليه من نافذة المناظرات المتلفزة للمرشحين للرئاسة الأميركية؟ إنه كيان قلق وكئيب يترقب الحدث الأميركي بلا أوهام ولا خيارات، ليس عند جورج بوش، ولا عند خصمه جون كيري، رؤية سلام. في أيام الحرب الباردة، على رغم مخاطرها الكامنة والمحتملة، كان هناك تنافس على التبشير بـ"السلام" لولا أن "الطرف الآخر" ماضٍ في تعنته كانت النزاعات مرتسمة بوضوح، أما اليوم فأصبح "العدو" في كل مكان، وراء الباب، في القطار أو في الطائرة، في الفندق أو على الرصيف. إذاً فلابد من العيش معه ومساكنته زمناً طويلاً قبل ترويضه والقضاء عليه. لا تصدقوا أن هذا يزعج القوى العظمى، إنه يعني سيادة الأمن وزيادته، بكل مظاهره وطقوسه، وتكاليفه، وبكل ما يعنيه من عود إلى بدائية كانت تراجعت واندثرت حتى شاع الظن بأنها انتهت.
بالنسبة إلى بوش، عندما يثار الحديث عن العالم، لا مجال للخروج من معادلة "إما معنا وإما ضدنا". فالحلفاء هم الذين ذهبوا مع الأميركيين إلى الحرب في أفغانستان، أما الأصدقاء فهم الذين ذهبوا معهم إلى العراق. ثمة من تمردوا، فعقدت اجتماعات خاصة في البيت الأبيض للبحث في كيفية معاقبتهم، ودرست فعلاً إجراءات، لكن الرئيس لم يتبنها. لم تكن المصلحة الأميركية مضمونة فيها مئة في المئة، وإنما كانت هناك خسائر لا داعي لتحملها. يبقى الكمّ الزائد من الدول، وهذه لا يحسب لها حساب إلا إذا اقتضت الحاجة طلب كم من رجالها لسدّ الثغرات الكثيرة في العراق. كان عتاة المتشددين في الإدارة البوشية انطلقوا في تخطيطهم من فكرة أن أميركا لا تحتاج إلى أحد، ثم اقتنعوا على مضض باتخاذ حلفاء لمجرد الديكور وأي من هؤلاء الحلفاء محظور عليه إبداء الرأي إلا إذا طُلب منه، ونادراً ما يُطلب. كل ما يستطيعه هو تنفيذ الأوامر، أما اعتراضات شعبه ومجتمعه فهي مسؤوليته.
بالنسبة إلى كيري، المسألة كانت تحتاج إلى شيء من التذاكي، لم يقل أبداً إن الولايات المتحدة كانت مضطرة لطلب معونة الحلفاء، أو كان يمكن أن تمتنع عن أمر إذا عارضه الحلفاء. على العكس تبنى كل مفاهيم الانفراد، لأنه عسكري سابق، ولأن هذا راسخ في "العقيدة" التي تشربها باكراً كسواه. إنه يختلف مع بوش بشأن الطريقة التي يجب استقطاب الآخرين بها، مجرد بيادق على الشطرنج، واللعبة المثلى هي تلك التي تمكن من "كش الملك" من دون خسارة عدد كبير من الأحجار. كل ما يقترحه كيري هو أسلوب آخر لتطبيق برنامج بوش، لذلك ظل نقاشهما في السياسة الدولية سطحياً وعمومياً ومائعاً. تبادلا اللذعات وحتى اللكمات، لزوم إثارة الجمهور، لكنهما تفاديا أي خروج عن النص، وفي النهاية لم يرَ الجمهور ما الفارق بين الاثنين.
وهكذا، فهم العالم أن صناعة "مكافحة الإرهاب" حفرت عميقاً في العقل "البزنسي" الأميركي، ومعها صناعة الحروب التي أغدقت عليها أكبر الميزانيات في الدولة الأغنى والأكثر قدرة على الإنفاق. لذلك بقي المرشحان في المربع الذي يخدم هذه الأنشطة، باعتبار أن المستفيدين من اندفاع بوش يبذلون كل ما وسعهم للحفاظ عليه في البيت الأبيض، وإلا فإن آخرين يدعمون كيري لعل فوزه يرجح فرصهم لجني الفوائد. ولا خيار إلا في استمرار نهج الحروب إياه. لم يبق من 11 سبتمبر أميركياً إلا ما فتحته من فرص وأبواب في الداخل والخارج محدثة مشروع الإمبراطورية، الذي لم ينجح حتى الآن إلا في تعميم الإرهاب لتعميم الحاجة إلى أدوات مكافحته، وبالتالي لتلبية نهم "البزنس الإرهابي" وشركاته الأميركية المتنافسة.
لا شك أن انتخاب أول رئيس أميركي بعد 11 سبتمبر منعطف بالغ الأهمية، فالحدث الذي غيّر أميركا يفترض أنه غيّر العالم أيضاً. لكن تحليل نظرتي الحزبين الجمهوري والديمقراطي يظهر أنهما يشكوان من أن العالم لم يتغير على النحو الذي توقعاه. العالم ميّز بين حتمية مواجهة الإرهاب وضروراته، وبين الهوس الأميركي بتحويل هذه المواجهة إلى منظومة حرب دائمة مفتوحة، كما أن العالم لم يتبنَ مبادئ الحرب الاستباقية، وإن أخذها في اعتباره طارحاً الكثير من الاعتراضات.
وفي النموذج العراقي لتلك الحرب ما يشير إلى حكمة المعترضين وحصافتهم. فالسعي إلى ديمقراطية في العراق مع دعم الإرهاب الإسرائيلي في فلسطين لا يعني سوى فرض الخيار ونقيضه في آن، ونقل "الحرب على الإرهاب" من أفغانستان إلى العراق لا يعني سوى الفشل أمام ذلك "الإرهاب"، كما أن تلفيق ملفات أسلحة الدمار الشامل كذريعة للحرب لا يعني سوى أن الحرب الاستباقية هي أولاً وأخيراً انتقائية، وبدوافع خاصة وحتى أيديولوجية، ولكن مرة أخرى من دون مشروع سلام يمكن أن يبرر فيما بعد الأخطاء والأكاذيب.