قاسم حدّاد، الأديب البحريني المعروف، يروي في كتابه "ورشة الأمل: سيرة شخصية لمدينة المحرّق" صورة لزمن مضى وعبر في خليجنا العربي، زمن المدينة الصغيرة التي ضاعت ملامحها في ظل التوسع الإسمنتي الذي طال محيطنا وتحكم في حياتنا.


ومن خلال صفحات ذاكرته ندرك كم تغيّرت البحرين، وننظر حولنا وندرك كم تغيرنا نحن وسائر مدن الخليج وإماراته، وهذا التطوّر والتغير، على ما يبدو، سنّة هذه الحياة وضريبة للنمو ولكنه مع هذا يبقى تحوّلاً صعباً خاصة، وأنه يحمّلنا ضرائب اجتماعية ندفعها يومياً، وندرك أنها تأتي ضمن منظومة متكاملة لا حول ولا قوة لنا حول العديد من جوانبها، ولعل تاريخ الخليج هو هذا المحتوم، فمع كل التطور الإيجابي الذي نهض بحياتنا يبقى أننا مجتمعات انتقالية جاءها الثراء والنفط سريعاً، ولم يترك لها الفسحة الزمنية لتتعامل معه بالنضج الذي يأتي من خلال التدرج ومن خلال الزمن، وكأن سنتنا مدتها أسبوع وأسبوعنا يقاس باللحظات، وندرك أن فرصتنا التاريخية التي جاءت مع حاجة العالم للنفط نعمة لم يكن لنا الخيار في تأجيلها أو تقسيطها، ولكن يبقى أن التغيّر كان عنيفاً وشاملاً، وبينما كان هذا الجانب من التطور السريع مصدر اعتزاز من قبلنا بدأنا ننظر إليه بنظرة أكثر عاطفية وندرك ثمنه الباهظ والذي قد لا نقوى أن نسدد استحقاقاته مستقبلاً.


يصف قاسم حداد المحرّق الذي عرفها، ومفرداته تكشف عن حبه لذلك الزمن الغابر، والمشهد عبارة عن طفولة متواضعة لأسر مكافحة تعيش في مجتمع فقير على أطراف ثورة الذهب الأسود، والشخصيات التي ترد في سرده من نوع الشخصيات التي نسمع عنها من آبائنا وكبار السن في مجتمعنا، شخصيات بسيطة شريفة همها الأول والأخير لقمة العيش، ونطاق اهتمامها أحوال أحيائها والأحياء التي حولها، ويبرز البحر كبعد رئيسي في هذا السرد العاطفي، ولكنه ليس بالأزرق الذي نعرفه اليوم، بحر الترفيه والرياضة، ولكنه بحر الرزق والعمل، وفي هذا المجتمع نجد أن المسافات متباعدة برغم قربها، فالمنامة بعيدة عند هذا الطفل وأقرانه بل هي بعيدة عند والده وأصحابه، ومدينته أحياؤها حقيقية وترتبط بمهن سكان المكان من بنائين وصاغة وحدادين و"قلاليف"، واللغة المتداولة هي اللغة البسيطة التي افتقدناها، من نوع: "هذا الشخص روبيته ليست 16 آنه"، ومن نوع تحذير صديق والده لقاسم وأصدقائه بألا يقتربوا من "السيكل"، بعد عاطفي يبدو أنه يبقى مع هذا الأديب كما تدل على ذلك عبارته "لا أزال أحمل للمحرق تلك الرغبة الحميمة في الهجاء، لفرط شعوري بأن المديح لم يعد يليق بالمدن التي تبتعد عنها دون أن نقوى على نسيانها".


وإذا كان لقاسم حداد محرّقه، فلكل منا محرّقه، ومع أن محرّقنا قد تكون أحدث من التي يصفها الكاتب إلا أنها تبقى مألوفة حميمة نفتقد أبعادها الإنسانية وتواصل سكانها، أمكنة غيّرتها النهضة وبدّلها هذا الانتقال الجذري، وندرك بكل أسف، وواقعية، بأن محيطنا العاطفي لن يعود، بل وسيختفي من الذاكرة ولن تنتقل قيمه لجيل جديد يجهل أهميته لدينا.


وإذا كان قاسم حداد يشعر بالحنين الجريح لتلك الأمكنة، فلعل شاعريته هي التي تعطي هذا الحنين جرحاً ولكن ذلك لا يعني أن حنيننا أقل من حنينه برغم إقرارنا أن شاعريته، بلا شك، أقوى من شاعريتنا، ويبقى أن نسلم أن الانقطاع في الخليج بين الحاضر وما قبله انقطاع مؤلم، وأخشى أن الانقطاع يتجاوز المادي والمكاني ليطال الروح والقيم.