"ما أشبه الليلة بالبارحة"، جملة يكررها البعض كثيراً على سبيل التندر أو الاستهجان، عندما تتشابه المواقف أو الأحداث أو الظروف أو التصرفات في واقعة ما، فماذا لو وجدنا شبه تطابق في تطور حدث بعينه ستكون له آثاره المهمة على العالم أجمع، وأعني به انتخابات الرئاسة الأميركية؟ إن المراجعة الدقيقة لنتائج استطلاعات الرأي الأميركية التي أجرتها مؤسسات صحفية مرموقة وقنوات تليفزيونية مشهود لها بالجدية والمصداقية، بشأن سباق انتخابات الرئاسة لعامي 2000 و2004 تكشف الكثير من التشابه، بل والتطابق، الذي يثير التعجب والمفارقات المثيرة للدهشة، رغم اختلاف المرشحين أمام بوش الصغير في كلا السباقين، ورغم اختلاف الظروف الراهنة، فأميركا قبل عام 2000 تختلف عنها في عام 2004 من ناحية السلوك الخارجي الانفرادي من جانب، وانكشاف الأمن الوطني من جانب آخر، كما أن الأمر سيتجاوز لأول مرة تركيز الناخبين على قضايا الوضع الداخلي. فعند مراجعة نتائج استطلاعات الرأي لعام 2000، حيث كان المتنافسان في سباق الرئاسة الأميركية هما آل جور وبوش الصغير، ظلت استطلاعات الرأي التي جرت خلال شهري يونيو ويوليو 2000 تشير إلى تفوق آل جور في مواجهة بوش، حيث كانت على التوالي 51% مقابل 46%، ثم 49% مقابل 47%، ثم انقلب الوضع في شهري أغسطس وسبتمبر 2000 وتفوق بوش على آل جور، وكانت النتيجة على التوالي 50% مقابل 48%، و49% مقابل 47%·
وتاريخ استطلاعات الرأي الأميركية يعيد نفسه في سباق الرئاسة لعام 2004 بين بوش الصغير وجون كيري، حيث تشير استطلاعات الرأي التي جرت خلال شهري يونيو ويوليو 2004 إلى تفوق كيري في مواجهة بوش الصغير، حيث كانت على التوالي 49% مقابل 42%، و45% مقابل 41%· ثم انقلب الوضع في شهري أغسطس وسبتمبر 2004 وتفوق بوش على كيري، وكانت النتيجة على التوالي 48% مقابل 43%، و53% مقابل 42%·
أي أن هناك شبه تطابق في نتائج استطلاعات الرأي الأميركية تجاه بوش ومنافسيه، حيث تكون في البداية لصالح خصمه، وعند الاقتراب من نهاية السباق تنقلب النتائج لصالح بوش، ولكن هذا لا يعني التنبؤ بفوز بوش الصغير بفترة رئاسية ثانية، لأن الذي يقرر ذلك نتائج فرز صناديق الانتخابات·
ففي آخر استطلاع للرأي قبيل انتخابات عام 2000 مباشرة كان التفوق واضحاً لصالح آل جور، ولكن عندما جرت الانتخابات فاز بوش، وإن كان الفوز جاء بنسبة ضئيلة من الأصوات، حيث لم تزد على بضعة آلاف صوت فقط في بعض الولايات، وبفارق 2% من كل الأصوات· وجاء فوز بوش بحكم محكمة فلوريدا العليا بعدد لا يزيد على 537 صوتاً، حيث حصل بوش على 2912790 صوتاً في فلوريدا مقابل 2912253 صوتاً لآل جور، وبذلك فاز بوش بأصوات فلوريدا الـ 25 لدى المجمع الانتخابي، وبذلك دخل بوش البيت الأبيض بفارق صوت واحد عن العدد المطلوب دستورياً لشغل منصب الرئاسة·
وتوجد مفارقات عدة أيضاً في استطلاعات الرأي حول القضايا التي يهتم بها المرشح للرئاسة والناخبون، فقد تفوق بوش على آل جور بنسبة ضئيلة في استطلاع الرأي حول القضايا التي تهم الناخب الأميركي جرى في شهر سبتمبر 2000، وهي قضايا داخلية تشمل: تحسين التعليم والمدارس، والاهتمام بالاقتصاد الوطني، وحماية نظام الأمن الاجتماعي، وتحسين الرعاية الصحية، والحد من ارتفاع تكاليف المعيشة، وخفض الضرائب·
لذلك كان رهان المتسابقين على الرئاسة الأميركية من الحزبين الديموقراطي والجمهوري للوصول إلى البيت الأبيض، هو التركيز على القضايا الداخلية في أحاديثهما وحواراتهما، والمناظرات التليفزيونية التي جرت بينهما، وكل منهما يحاول إقناع المواطن الأميركي بمدى اهتمامه بالشأن الداخلي وإطلاق الوعود بالتحسين ولإصلاح والخفض والزيادة. ولكن انتخابات عام 2004، والتي تشير جميع استطلاعات الرأي العام إلى أن ثلاثة أرباع الناخبين الأميركيين يتابعونها باهتمام شديد مقارنة بأقل من النصف خلال العقود الأربعة الأخيرة، سوف تكون نتائجها خاضعة لتأثير القضايا الخارجية بدرجة مساوية لتأثير القضايا الداخلية، بل ربما تفوقها· وتضم قائمة القضايا الخارجية موضوعات شتى من أهمها: موقف القوات الأميركية في العراق، والحرب على الإرهاب، والأمن القومي الأميركي، والسياسة الخارجية الأميركية، والعلاقات مع الحلفاء التقليديين والتاريخيين للولايات المتحدة، والبيئة·
لذلك ركز كل من بوش وكيري على طرح استراتيجيته الخاصة للتعامل مع هذه القضايا خلال حملته الانتخابية، ولكن تظل رؤية كل منهما مختلفة عن الآخر، بل أحياناً تكون في اتجاه مضاد، كما انفردت هذه الحملات بسمة جديدة حيث التركيز الشديد على سلبيات السلوك الشخصي لكل منهما وتاريخه، وتبادل الاتهامات بالكذب والجهل، والتخاذل في تأدية الواجب الوطني أثناء الخدمة في القوات المسلحة. ففي حين كان الاتهام الموجه إلى بوش هو التهرب من أداء الخدمة العسكرية الميدانية، جرى التشكيك في حقيقة الدور الذي قام به كيري في حرب فيتنام وهروبه من الميدان بحجة إصابته، وبالطبع نجد أن